فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (20)

نبي المرحمة ونبي الملحمة لا يستطيع ذو خلق أن يتهم محمدا بأنه كان يريد برسالته بسطة في المال أو بسطة في الجاه، أو حظا من حظوظ الدنيا. والمعروف في سيرته أنه كان أعلى الناس هتافا بتوحيد الله وتمجيده، وأغير الناس ضد نسبة الشركاء والشفعاء إليه، وأرغبهم في تنفيذ أمره، وتوقير وحيه، وإبعاد الأهواء عما شرع للخلائق. 

وقد كان يحزن ـ إلى حد الاعتلال ـ لصدود الجهال عنه ويأسف لمضيهم في عماهم، ولكن الله عرفه أنه مكلف بالبلاغ، وحسب: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3)}[طه]. وأفهمه أنه لا يقتاد الناس إلى الصراط المستقيم قسرا، وأن الحماس والإخلاص لا يحملانه على هذا المسلك: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين}[يونس:99]. لكن أتباع الأديان الأخرى أحسوا الخطر من الدعوة الجديدة، ورأوا أن ترك صاحبها يتحدث معناه انصراف الناس عنهم، فإن الإسلام له بالنفس الإنسانية قرابة، أليس صدى الفطرة؟ إن العقل يتقبله على عجل، وإن القلب يرغب فيه دون تكفف، من أجل ذلك اتخذ أعداء الإسلام طرقا عديدة للصد عنه. 

ولو كانت هذه الطرق مقارنة دليل بدليل، لرحَّب الإسلام بهذا النزال، واطمأنَّ إلى نتائجه. لا.. إنَّ الأمر مشى على سياسة الصلف والتحدي التي لا يحسن الأقوياء غيرها: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}[إبراهيم:13]. 

إن هذه السياسة فرضت على النبي الصبور المكافح أن ينتصب للدفاع عن رسالته، وعن المستضعفين الذين اضطهدوا معه لاعتناقها. 

إذا كنت تمشي في الظلام ومعك مصباح يضيء لك الطريق، فإنك قد ترفع مصباحك ليهتدي معك غيرك، وإن كره أحد الانتفاع بسناك فليتعسف السير وحده، وليتعرض للحُفر والمهالك ما شاء له هواه: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظ}[الأنعام:104]. 

لكن ما العمل إذا حاول سفيه يهوى الظلمة أن يكسر مصباحك؟ ويطفئ شعاعك؟ أليس من حقك أن تقاتله لتستبقي الهدى لك ولغيرك؟. 

إن ذلك ما فعله محمد: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون (9)}[الصف]

إن الذين يؤيدون سياسة تكسير المصابيح هم أشد الناس بغضا لمحمد، وكرها للرسالة التي جاء بها، وهم يدركون أن الضوء عدوهم لأنه يكشف باطلهم، ففي نور الحرية العقلية وحده يرفض الإنسان مبدأ التثليث في الألوهية ولو قيل له تسويغا لذلك: إن المثلث خط واحد! ويرفض رب إسرائيل المتعصِّب لشعبه وحده، المزدري لسائر الشعوب، الذي لم يتحدَّث عن الآخرة بكلمة. 

وقد شرع محمدٌ يدعو إلى دينه، فلننظر في دعوته، أترى فيها أثارة لمجد شخصي، أو تطلعا لغاية دنيوية؟. 

هل رأينا في تراث إنسان أحر من هذا الحديث عن الله ووحدانيته ووجوب التفاني في مرضاته؟. ثم لننظر في القتال الذي خاض ميدانه، هل رأيناه مُعتدا بقوته أم مستندا إلى قوة الله وحوله وطوله؟ هل رأيناه يبغي شيئا غير إعلاء كلمة الله؟ 

هل رأيناه يقول: الويل للمغلوب، أو يجعل الظروف تقول ذلك، أم ترك حرية التدين عامة شاملة بعد ما قلم أظافر الطغاة؟ 

لنستنطق التاريخ العادل. كانت معركة بدر أول قتال وقع بين الإسلام والوثنية، وذلك بعد خمس عشرة سنة من بدء الدعوة، ماذا كانت حال المسلمين خلال هذه المدة؟ 

كانوا مُهدري الحقوق، كانوا غرضا قريبا لكل ذي عدوان. وكان الرسول يشكو إلى الله ضعف قوته وقلة حيلته! ورفض الجاهليون كل الرفض الاعتراف بالإسلام، وعدَّه ديناً يقبله المجتمع العربي. 

أُخرج المسلمون من مكة ـ وهي الحرم الآمن ـ وكشرت الوثنية عن أنيابها، وبعد ما تم لها ما تريد أعلنت أن الهوان والطرد نصيب كل من يدخل في الإسلام، فهل يلوم أحد المسلمين إذا تصدَّوا لهذا التحدي، وقرروا الوقوف أمامه في حدود قواهم القليلة؟. وماذا يفعلون؟ لقد ارتقبوا فرجا مع الغد المجهول. 

وجاء هذا الفرج من حيث لا يحتسب أحد، فقد فرضت الظروف على المسلمين معركة بدر دون أن يستعدوا أو يخططوا لها، وشعر فريق منهم بالكره البالغ لهذا القتال المفروض، وتقدم المشركون للمعركة، وهم واثقون من دحر الإسلام، وحفر قبره هنا. 

وأحسَّ النبي عليه الصلاة والسلام أن التصدي لهؤلاء ما منه بد، وأن جهاد الماضي المر بالغ قمته اليوم، وأن حكم الله قد تتمخَّض عنه هذه الساحة التي مهَّدها القدر، فاتجه عليه الصلاة والسلام إلى ربِّه ينشد النجدة والحِمى. 

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبته التي أقيمت له ببدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم.. " فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، فقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، فخرج النبي وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَر (46)}[القمر]

وفي رواية: استقبل نبي الله القبلة ثم مدَّ يده فجعل يهتف بربِّه عز وجل يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض ". فما زال يهتف بربه مادا يديه، حتى سقط رداؤه. 

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعرُ أنَّ قريشا أقبلت بكبريائها وبطرها تريد أن تتوِّج اضطهادها للإسلام بيوم أغبر، وكان يعلم أن جمهرة المسلمين صابرت البأساء والضراء أمدا طويلا وهي متشبثة بدينها في وجه عناد شديد، فنظر إلى حالتهم قبيل القتال المرتقب وقال: "اللهم إنهم جياع فأشبعهم.. اللهم إنهم حفاة فاحملهم.. اللهم إنهم عُراة فاكسهم ". لقد كلَّفهم الإيمان الكثير طوال السنين التي مضت. 

ولم يكن أحدٌ يدري أنَّ الله ـ تبارك اسمه ـ قد تأذَّن بتغيير الوضع كله، فأغرى قريشا بدخول معركة هي أغنى الناس عنها، ووضع المسلمين أمام أمر واقع لا يستطيعون عنه حولا، لِمَ؟: {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون (8)}[الأنفال]. 

نعم، استجاب الرحمن لاستغاثة نبيه، وتنزل النصر المفاجئ فكان صاعقة كسرت ظهر الكفر، وجائزة ملأت أيدي المؤمنين بالخير، وصبغت وجوههم بالبشر. ولم يكن انتصار بدر هذا إلا فاتحة عهد آخر من الجهاد العسكري تجمعت فيه كل القوى المعادية للإسلام تريد الإجهاز عليه والخلاص منه. 

واستأنف النبي وصحبه العمل لربهم وآخرتهم. 

إنَّ أطماع الدنيا لم تكن أمل هؤلاء الرجال الكبار! إنَّ الموت من أجل المبدأ الجليل هو ما غرسه النبي فيهم، وهو أسعد نهاية يختم بها مؤمن حياتَه!. وقد تعلَّق المسلمون بهذا المعنى في أيام الرخاء والعافية، فهم في الأمن والصحة يسألون الله الشهادة كما جاء في الحديث: "من سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات، أو قُتل، فله أجر شهيد" وفي رواية "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله تعالى منازل الشهداء، وإن مات على فراشه "

وبذلك التجرد لله تكونت أمة وراء نبيها تنصر الحق، وتثأر له، ولا تبالي بأنصبتها من الدنيا، وكانت دنياها في الأغلب رقيقة لما ارتبطت به من تكاليف، ولما حلَّ بها من غُربة. 

عن أنس بن مالك: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، صباح شتاء قارس، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة".. 

وكانوا يحفرون التراب وينقلون أكوامه على ظهورهم، وينشدون: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا كان رسول الله حريصا على أن يكون القتال لله لا لدنيا عارضة، وكان يأبى على رجاله أن ينشبوا الحرب أو يستمروا الخصوم. 

فعن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس ـ خطيبا ـ قال: "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "، ثم قال: "اللهم مُنزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ". وفي رواية: "اللهم مُنزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم "

وهزيمة الأحزاب حول المدينة شأنها عجيب، فإن قوات الضلال في الجزيرة كلها أطبقت على المسلمين في مدينتهم، فإذا المسلمون في مَأزق ضيق خانق يُنذر باستئصالهم، وليس هناك بصيص أمل في بشر، اللهم إلا ما تصنعه السماء. 

وكان الظن أنَّ المسلمين قد احتبسوا في مصيدة هي لا محالة مهلكتهم، وكان النبي الضارع لربه ينتظر منه العون لحظة بعد أخرى، فلا أمل إلا فيه. 

وبوغتت الأحزاب الطامعة بالأجواء تتمخض عن عواصف أو أعاصير تخلع خيامهم، وتكب آنيتهم، وتبعثهم يطلبون النجاة من حيث جاءوا، بعيدا عن هذه المدينة المنيعة. وانطلق صوت الإيمان داخل المدينة التي أشرق عليها الفرج يقول: "الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده ". 

والثابت في خلق الرسول الكريم أنه كان شديد التوكل على الله والتحصن به والثقة فيه، كان إذا قاتل قال: " اللهم أنت عضدي، ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل ". وكان إذا خاف قوما قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم ". 

وكان يكره التهريج والفوضى والصخب عند القتال، فالأمر جد، والسكينة أعون على طاعة الله، واستنزال نصره. 

والموقف هنا يوجب استحضار قدرة الله، وفضله وغناه، وحاجة العباد أبدا إليه، وتوسلهم إليه بالبراءة من الحول والطول، ولقد ثبت أن من مواطن إجابة الدعاء وقت التقاء الجمعين، إنه كوقت السجود، وإنهاء الصوم، واستغفار السحر، وكل آناء التجرد لله، وطلب جداه. 

والأمة الإسلامية كلها من وراء الجبهة الساخنة تدعو ربها وتسأله النصر، وهي في الصلوات الخمس تقنت، ترد النوازل، أو تقنت مع مطلع كل فجر طالبة من الله تأييد المجاهدين.

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين