فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (19)

 

هذا الذاكر العفيف النبيل هو الذي عنته الآية الكريمة: ﴿وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾

ما أكثر الألسنة المتحرِّكة باسم الله، وأقل جدواها! وما أندر الأفئدة الخاشعة لذكر الله، وأحوج العالم إليها! 

إنَّ فساد الأديان يجئ من تحولها إلى ألفاظ ومظاهر، وما يؤدي الدين رسالته إلا يوم ينشئ ضمائر حية وسرائر طهورا، وقلوبا ترمق الشهود الإلهي برهبة، ذلك هو الذكر الحق. 

ومن آثار هذا الذكر أنه يحكم غريزة حيث المال، فالذاكرون لا يلهيهم التكاثر، ولا تزري بهم طبائع الجشع والشح، هم يأخذون المال من حِله، ويضعونه في حقه، ولا يحبسونه ووجوه الخير تنتظره، بل هم كما قيل: لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق. والغاشون من رجال الأديان سقطوا في حبائل المال وجمعه واكتنازه، فأعانوا أو سكتوا عن الحكام الفسقة، ومهَّدوا الطريق أمام الفلسفات الملحدة كي تحكم بعدما ساءت سمعة الدين، والمتحدثين باسمه. 

لكن النبي العربي المحمد وزَّع كلَّ ما جاءه من أمواله على الناس، وخرج من الدنيا بلا ميراث لأهل، وربَّى رجالا يؤثرون وجهَ الله على متاع الدنيا كله: ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورً﴾

والطريف أنَّ العشرة المبشَّرين بالجنَّة كانوا من هذا الطراز الذي ملك الدنيا، ونزل عنها لله. ليس النجاح أن يكون المرء عديم المال والأهل، ولكن النجاح أن يكون المرء كثير المال والأهل، ومع ذلك لا يشغله شيء من ذلك عن ربِّه، مصداق قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ٩ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ١٠ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ﴾

ولذكرِ اللهِ آثارٌ كثيرة في الأخلاق والمسالك ليس هنا موضع تتبعها، وحسبنا أن نقول: 

إنَّ ذكر العظيم يرفعُ القدر ويعقد العزم، والاستعداد للقائه يمنع الطغيان، ويضبط الحقائق. 

من عرَّف الناس بربهم، وذكَّرهم بحقوقه، وفنَّد الإشاعات الباطلة في ميدان العقائد، وبيَّن أنه لا إله إلا الله؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام، لكن كيف نجح في اقتياد الأجيال إلى الصراط المستقيم؟. 

إنه عندما بدأ الدعوة في مكة هاج عليه الأكثرون: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6] بيد أنه مضى إلى غايته يحارب الجنون المتبجح وما زال بعين الله حتى أقام دولة الحق. 

كان القرآن خفقه، كانت دراسته لباب فكره وتيار شعوره، كانت وصاياه وأوامره ونواهيه جوهر سلوكه وأساس علاقاته بالناس جميعاً، كانت تلاوته سعادة روحه وفرة عينه ومرضاة ربه. وفي الحديث: "ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يقرأ القرآن يتغنى به "

إنَّ ما صدر عن الله وحيا، يُطبق في الأرض قانونا وخُلقا، ثم يعود إليه نغما عذبا. ونذكر هنا قصة عن أثر القرآن في نفس رجل مشرك، قال جبير بن مُطعم: إن أباه قدم المدينة مفاوضا عن قريش في افتداء أسرى بدر، والرجل من عظماء مكة، والمهمة التي جاء من أجلها تخليص سبعين من صناديد قريش أوقعهم البطر بأيدي المسلمين. 

وسمع الرجل المشرك نبي الله وهو يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب، قال: (ما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه).. 

واستمرَّ الرجل يسمع الآيات في المحراب الخاشع المخبت، وهو مسحور بالتلاوة المرسلة، قال: فلما بلغ هذه الآيات: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور:35-36] إلخ.. قال مُطعم: (كاد قلبي أن يطير). 

وكان سماعه هذه الآيات ـ وهو مشرك ـ سببا في دخوله الإسلام بعد ذلك. 

ونتوقف هنا قليلا، إن سورة الطور مكية، ولا شك أنها قُرئت في مكة مئات المرات فهل لم يسمعها الرجل إلا اليوم؟ 

ربما، فإن المشركين هناك تواصوا بإحداث شغب وضوضاء حول مجالس القرآن حتى لا تغزو معانيه قلبا، فيؤمن بالله. 

وربما سمعها من قبل ولكن التعصب والكبرياء صداه عن الحق فلما قلمت الهزيمة أظافر قريش، وعاد إليها رُشدها وتواضعها، أخذت تفكر فيما تسمع. 

وقد نظمت أنا في الآيات التي روعت قلب الرجل، وتجدد في نفسي إحساس بما أودع فيها من عبرة، إن الآيات قصيرة، ولكنها ذات جرس لاذع رهيب!. إنها تشبه المفتاح الدقيق لخزائن ضخمة، فالمعاني التي تهجم على الفؤاد بعد سماعها تشبه العواصف العاتية، تكرَّرت كلمة "أم " خمس عشرة مرة، و"أم " عند علماء اللغة تجزيء في هذا السياق للإضراب الذي يعقبه استفهام قد يكون توبيخاً، أو تقريراً، أو تعجيباً. 

إنَّ النفس الإنسانية تتقلب على هذه المشاعر بما ينفي عنها الغفلة، ويرغمها على الانتباه. 

﴿فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ٢٩ أَمۡ يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ٣٠ قُلۡ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُتَرَبِّصِينَ٣١ أَمۡ تَأۡمُرُهُمۡ أَحۡلَٰمُهُم بِهَٰذَآۚ أَمۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ٣٢ أَمۡ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥۚ بَل لَّا يُؤۡمِنُونَ٣٣ فَلۡيَأۡتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثۡلِهِۦٓ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ٣٤ أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ٣٥ أَمۡ خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ٣٦ أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمۡ هُمُ ٱلۡمُصَۜيۡطِرُونَ٣٧ أَمۡ لَهُمۡ سُلَّمٞ يَسۡتَمِعُونَ فِيهِۖ فَلۡيَأۡتِ مُسۡتَمِعُهُم بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ٣٨ أَمۡ لَهُ ٱلۡبَنَٰتُ وَلَكُمُ ٱلۡبَنُونَ٣٩ أَمۡ تَسۡ‍َٔلُهُمۡ أَجۡرٗا فَهُم مِّن مَّغۡرَمٖ مُّثۡقَلُونَ٤٠ أَمۡ عِندَهُمُ ٱلۡغَيۡبُ فَهُمۡ يَكۡتُبُونَ٤١ أَمۡ يُرِيدُونَ كَيۡدٗاۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلۡمَكِيدُونَ٤٢ أَمۡ لَهُمۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ٤٣﴾ [الطور:29-43]

هذا أثر القرآن في رجل مشرك التفت إليه بسمعه وفؤاده. 

وروى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا قال: خرج عمر بن الخطاب يعس المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته، فقرأ الرجل: ﴿وَٱلطُّورِ١ وَكِتَٰبٖ مَّسۡطُورٖ﴾ حتى بلغ: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَٰقِعٞ٧ مَّا لَهُۥ مِن دَافِعٖ﴾ فقال: (قسم ورب الكعبة ـ حق) فنزل عن حماره، واستند إلى حائط ـ وهو مُروع النفس ـ.. ! فمكث ملياً ثم رجع إلى منزله، فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه !! رضي الله عنه. 

إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان مفعم الصدر بخشية الله وهو يمشي في أزقة المدينة يتفقد رعيته، وينص المسامع ليتعرف ما هنالك، كان الرجل الكبير يحمل هموم الجماهير، ويسهر ليقدم حساباً إلى الله عما وُلي من شؤون الأمة. 

وكانت تلك المشاعر المضغوطة كالوقود الذي يرتقب شعلة ليلتهب، فلما سمع: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ [الطور: 7] كان ذلك كافيا ليوجل قلبه، ويشحب وجهه، وتدمع عينه، ويؤوب إلى بيته عليلاً، وما به علة إلا مخافة الله. وعمر ـ إن شاء الله ـ يُبعث من الآمنين، فهو من السابقين الأولين والعشرة المبشرين، ولكن الضمير الحواس لا يعرف طمأنينة حتى يلقى الله بما أدى ووفى. 

وإنما ذكرت هذه القصة لأني مغيظ من رعاع يلتفون حول قارئ للقرآن ناعم الأوتار، فإذا هم يصيحون حوله بسفه، ما يفقهون من معنى، ولا يستضيئون بعظة، تحول بهم مجلس القرآن إلى مجلس لغو ولهو، قبحهم الله!. وكم أساء المسلمون إلى كتاب الله، وإلى ذكر الله!!. 

إن الآيات التي طار لها قلب امرئ واع ـ من سورة الطور ـ والتي ساقته ـ وهو مشرك ـ إلى الإيمان بالله، هذه الآيات بدأت بحملة واضحة: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ [الطور: 29] هذا التذكير هو إنشاء برامج لحياة جديدة، هو بناء حياة من طراز راشد على أنقاض حياة بالية. 

والذكر هنا معاملة مع الله، وهي معاملة فيها تبادل نشاط وتقدير إن صح التعبير ـ ولله المثل الأعلى ـ وهذا معنى يتضح من الحديث القدسي المشهور: "يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه: إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ". وفي رواية عن أحمد بعد ذلك: ".. والله أسرع بالمغفرة "

إن هذا الذكر هو إقبال رجل على الله بعزم، وقبول الله لذلك، وإقباله عليه أجل وأزكى. 

ولصاحب الرسالة كلمات مضيئة في هذا الميدان نستهدي بها: " من قال: لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" قيل: وما إخلاصها؟ قال: "أن تحجزه عفا حرم الله عليه ". "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ". "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه: فمعتقها، أو موبقها". 

وعن ابن أبي أوفى، قالت أعرابي: يا رسول الله إني عالجت القرآن فلم أستطعه ـ لم أقدر على حفظه ـ فعلمني شيئا يجزئ عن القرآن. قال له الرسول: "قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وزاد في رواية: "ولا حول ولا قوة إلا بالله "، قال الأعرابي: يا رسول الله هذا لربي، فمالي؟ قال: "تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني ـ أحسبه قال ـ واهدني "، ومضى الأعرابي فقال رسول الله: "ذهب الأعرابي وقد ملأ يديه خيرا... "

والأحاديث في ذلك باب واسع، والذي يكتب عن النبي العربي المحمد في الأخلاق يظن سنته كلها خلقا، أو في الجهاد يظن سنته كلها جهادا، أو في الذكر يظن سنته كلها ذكرا. 

إنَّ ضخامة هذا الرسول تردُّ المتطلع وهو حسير، فسبحان من بعثه رحمة للعالمين. 

اللهم لك الحمد حمداً كثيراً خالداً مع خلودك، ولك الحمد حمداً لا منتهى له دون علمك، ولك الحمد حمداً لا منتهى له دون مشيئتك، ولك الحمد حمداً لا أجر لقائله إلا رضاك. 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين