فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (18)

أبرز ما في سيرة هذا النبي أنَّ حُبَّه لله، وإعظامه لله، وتفانيه في الله ينتقل من نفسه إلى من حوله، فكأنهم في سباق إلى حمد الله والثناء عليه.. ولننظر إلى هذه الأحاديث: 

روى أحمد عن عبد الله بن عمر أن عبدا من عباد الله قال: "يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك... فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها! قال الله ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها.. "

وظاهر أن هذا العابد كان في سياحة روحية طوفت به في آفاق لا يعلمها إلا الله، استجمع فيها من الآيات والعبر ما شحن قلبه، وغمر جده، وغلب على ظاهره وباطنه، فلم ير إلا أن يحيي ربه بهاتين الجملتين. ورأى الملكان أن ما قال فوق ما لديهما من ضوابط الأجور، ففعلا ما فعلا. 

وعن أبى أيوب رضي الله عنه، قال رجل عند رسول الله عليه الصلاة والسلام الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال رسول الله: "من صاحب الكلمة؟ فسكت الرجل، وظن أنه قد هجم من رسول الله على شيء يكرهه! فقال رسول الله: "من هو؟ فإنه لم يقل إلا صوابا ". فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله أرجو بها الخير، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : "والذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك. أيهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى"

وعن أنس بن مالك قال أُبي بن كعب : لأدخلن المسجد فلأصلين، فلما صلى وجلس ليحمد الله ويثني عليه، فإذا هو بصوت عال من خلفه يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، لك الحمد إنك على كل شيء قدير. اغفر لي ما مضى من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني، وتب علي. فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقص عليه، فقال: "ذاك جبرائيل عليه السلام "

وليس غريبا أن يهبط الملك بهذه الدعوات ليستوعبها قلب يشرئب إلى مدح الله على نحو لم يُسبق إليه، لقد كانت الملائكة تتنزل عندما يقرأ بعض الصحابة القرآن الكريم. 

الشيء الذي يستدعي التساؤل: من الذي دفع هؤلاء الأصحاب إلى الإيغال في طريق التوحيد والتقديس حتى تفجرت ينابيع الحكمة من ألسنتهم ونطقوا بكلمات زاكيات في تمجيد الله وإجلاله؟ 

إنه النبي العربي المحمد. من غيره وراء هذه العواطف المشبوبة؟ إنه الإنسان العبَّاد السَّجَّاد الذكَّار الشكَّار الذي ألهم التسبيح والتحميد مع كل زفير وشهيق، لقد حوَّل الأرض إلى حلبة تُنافس السماء في الذكر والشكر. 

عن النعمان بن بشير، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن مما تذكرون من إجلال الله من التسبيح والتحميد والتهليل، ينعطفن حول العرش لهنَّ دوي كدوي النحل، تذكر بصاحبها! أما يحب أحدكم أن يكون له، أو لا يزال له، ما يذكر به؟ ". 

وعن عبدِ الله بن مسعود: إذا حدَّثتكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله، إنَّ العبد إذا قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، وتبارك الله، قبض عليهن ملك، فضمهن تحت جناحه، وصعد بهن لا يمر على تجمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يُحيا بهن وجه الرحمن، ثم تلا عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10]. 

قالوا: فاقد الشيء لا يعطيه، ومن تمام ذلك أن يقال: ومعطي " الكثير لابد أن يكون لديه أكثر! إن الأنهار الجارية تجيء عقب مطر هتان يسح أناء الليل، وأطراف النهار. 

والحق أنَّ السلف الصالحين الذين تربَّوا بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل جيل من الأبرار تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، ثم إلى آخر الدهر، إنَّ هؤلاء، وأولئك بشخصيَّة محمد تأثَّروا، وبروحانيَّتِه استناروا، ومن رسوخ يقينه استمدوا. 

إنَّ صحبته في حياته، وصحبة مواريثه العقلية والخلقية بعد مماته تفعل الأعاجيب، وبقدر الاقتباس من مولد الطاقة تكون القوى الروحيَّة والفقهيَّة، والأساس كله عظمة المصدر. 

إنَّ بيننا وبين الشمس مائة وخمسين مليون كيلومتر، من ناحية البُعد، ولا ندري من ناحية الزمان متى بدأ إشعاعها؟ لكن بُعد الزمان والمكان لم يغير من قدرة الشمس على الإضاءة والإنضاج واستبقاء الحياة على كوكبنا. 

كذلك أثر محمد عليه الصلاة والسلام في المستقدمين والمستأخرين، أثر عبادته وقيادته، أثر سيرته ودعوته، وإن طال الزمان، واتسع المكان!. 

ومنهج الذكر والتذكير في رسالة خاتم المرسلين يحتاج إلى شرح. إن الصدق العقلي أساسه الأول، والكلمات التي أهاب الإسلام بأتباعه أن يرددوها هي قضايا علمية صحيحة. 

فكلمة: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو تعالى الله، تعني تقرير الصواب وتوكيده في أخطر أصول الاعتقاد. 

تدبَّر قوله جلَّ شأنه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون (92)}[سورة المؤمنون]. ليس لله أم، ولا أب، ولا ابن ولا ابنة، إنه واحد، وما عداه عبد يخضع لأمره، وإذا شاء سحب منه نعمة الوجود، فباد وتلاشى. 

نعم، ما عدا الله فهو جزء من الكون الذي يبقى لأنَّ الله يمده بالوجود بعدما أوجده بدءا، كما يخمد المصباح إذا قطعت عنه التيار. 

نعم، لا شريك لله، ولا حول ولا قوة إلا به، له وحده الفضل والملك والحمد. 

ومحمد- عليه الصلاة والسلام- أجهر البشر صوتا بهذه الحقيقة، وأغير الناس عليها، وقد ذاد بصوته ويده خرافات كثيفة عكرت صفوها واستنقذ جماهير هائلة كانت حائرة عنها. 

ولا تعرف في سير الأنبياء، وقادة الإنسانية الكبار من قام بمثل جهده ولا من نجح مثل نجاحه، ولا أحسب الأبالسة ومردة الإنس والجن غاظهم أحد ولا اعترض آثامهم غاضب لله، مثل ما فعل محمد القوي بربه، المجاهد في سبيله، فقد أنصف الحق من الباطل، والرشد من الغي. 

وبنى ـ وهو قَوَّام الليل ـ جيوشا يشقُّ تكبيرها عنان السماء، تصرخ بأن الله واحد، وأن الخلق كلهم ـ وأولهم محمد ـ عبيد لمن فاضت عليهم بركته، ونطقت معايشهم حكمته. 

إذا كان الدين قلبا طيبا، فهو قبل ذلك عقل سليم، وفكر حسن، وعلم صحيح: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[آل عمران:18]. 

ونحن لا نسأم من توكيد هذا القول لأن الدنيا لا تزال تسمع من يقول: إن لله أما، وأبا، وإن الذات المقدسة ثالوث ذو رؤوس متميزة هي أب وابن وروح قدس.. وهو كلام صفر من أية حقيقة، مصدره إشاعة من بعض العقول العليلة، والخيالات المغالية الجانحة للأوهام؟ كلام ما قاله نبي سبق، ولا أقره عقل محترم. 

وأهل الكتاب ـ أعني النصارى خاصة ـ يكرهون كلمة التوحيد، وقد حاربوها ولا يزالون، وسوف نبقى عليها، ونلقى ربنا بها. 

روى أحمد عن شداد بن أوس ـ وعبادة بن الصامت يصدقه ـ قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل فيكم غريب؟ ـ يعني من أهل الكتاب ـ قلنا: لا يا رسول الله. فأمر بغلق الباب، وقال: ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله ـ كأنه يبايعهم ـ فرفعنا أيدينا ساعة ـ فترة ـ، ثم قال: الحمد لله، اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، وأنت لا تخلف الميعاد، ثم قال: "أبشروا فإن الله قد غفر لكم "

وسناء الفكر، مهما بلغ، لا يغني عن زكاة القلب، وصفاء الروح. 

لقد كان إبليس يعلم أن الله واحد، ولكنه أبى أن يلتزم بمبدأ السمع والطاعة، أبى أن يتواضع وينكر ذاته، أبى أن يكبت نزوات الحقد والاستطالة على الآخرين، أبى أن يكون عبدا حقا لله. 

والهيكل الأخلاقي الضخم الذي بناه صاحب الرسالة الخاتمة إنما ينهض على قلب سليم، ترتبط بالله رغبته ورهبته، ولذلك قال: "التقوى هاهنا التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" ويشير إلى قلبه. 

والقرآن بعدما يشرح الحقيقة العلمية يشرح الحقيقة الروحية، أو الخلقية وما ينبغي عليها من سلوك. قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين}[الأعراف:54]. 

ماذا بعد هذه الحقائق العلمية عن رب الزمان والمكان: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين}[الأعراف:55] لا بد أمام الله من الضراعة والدعاء المصحوب بالفقر، المقرون بالخفوت ـ لأنه أدل على الذات وما فيها ـ ومن تجاوز هذا المستوى فهو يعدو حدوده. 

ثم ماذا؟ إن الله قد نظم للأرض ما تصلح به فلا يجوز أن نثير الفوضى فيما وضع، وعلينا أن نبلغ بالأعمال حد الإتقان، وليبق نظرنا إلى السماء دائما نرجو الخير، ونحذر الشرور: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين}[الأعراف:56] وفى مكان آخر من السورة نفسها يقول تبارك اسمه : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين}[الأعراف:205]. 

والذكر المقصود حركة قلب، لا حركة لسان كما يتوهم الجهال، حركة قلب يوجه صاحبه هنا أو هنالك وينشطه أو يكبو به. 

عن أم أنس رضي الله عنها قالت: يا رسول الله أوصنى قال "اهجري المعاصي فإنها أفضل الهجرة، وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد، وأكثري من ذكر الله فإنك لا تأتين الله بشيء أفضل من ذكره ". الذكر الذي جاءت الوصايا به شيء آخر غير ما يسبق إلى أذهان الدهماء. إنه مصدر السكينة والاستقرار تجاه صروف الدنيا ومتاعبها، ففي حضارتنا المعاصرة كثر المثقفون، وشاعت المعارف الذكية، ومع ذلك فإن اضطراب الأعصاب، وانتشار الكآبة داء عام. 

ما السبب؟ خراب القلوب من الله! إنها لا تذكره كي تتعلق به وتركن إليه، وكيف تذكر من تجهل؟ 

إن الحضارة الحديثة مقطوعة العلاقة بالله، والإنسان مهما قوي ضعيف، ومهما علِم قاصر، وحاجته إلى ربه حاجة الطفل إلى أبيه يحنو عليه، ويحميه. 

وذكر الله أمام الأزمات والنوازل عزاء ورجاء، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب(29)}[الرعد]. 

وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أوثق الناس بالله، وأشدهم تعلقا به، منذ بدأ الدعوة قيل له: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)}[المزمل] من يومها توكل على الله وواجه قوات الشرك والكفر، فما هان ولا استكان. 

وقد علَّم محمد الناس أن يثقوا من حنو الله عليهم، ورحمته بهم، وأفهمهم أنه أحنى عليهم، وأرحم بهم من الأم برضيعها، فلماذا ينأون عنه، ويفرون منه؟. 

وذكر الله هو وحده أساس الضمير الكاره للآثام، العاصم من الانحراف. 

أعرف أن هناك أناسا لهم حناجر صياحة باسم الله، إنني لا أعني هؤلاء أبدا، إنما أعني إنسانا يحسُّ بإشراف الله عليه {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِين}[الأعراف:7] فإذا همَّ بسوء توقَّف، وإذا زين له الشيطان قبيحا كشف خداعه ورفض مُتابعته واستحضر عظمة ربِّه، وأمره، ونهيه، فاستقام. 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين