فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (17)

ذكر وتذكير في وهج الحر قد يأوي المرء إلى حجرة "مكيفة" الهواء، يبقى داخلها مراح الأعصاب! وربما كان حظه أتم فذهب إلى مصيف عليل الريح لطيف الأنفاس، فهو ـ حيثما اتجه ـ في ربيع دائم. 

إنَّ علاقة المؤمنين مع ربهم، نور السموات والأرض، تتراوح بين هذه المنازل، فقد يعيش العابد في صومعة معزولة عن ضجيج المجتمعات وآثامها، راكنا إلى الحميد المجيد، الفعَّال لما يريد، فهو سعيد بربه ترنو إليه بصيرته، وتتحدَّد عنده وجهته، ويظلُّ كذلك بعيدا عن لفح الحياة الضالة، والعوج الشائع. 

وربما رزق بيئة صالحة، انهزم فيها الشيطان، واستقر في جنباتها الحق، وتجاوبت في أرجائها أصداء التسبيح والتحميد، فهو يمشي على نور من يقينه، وأنوار من إخوانه المتعاونين معه على البر والتقوى. كان الصحابة رضوان الله عليهم يستمتعون في جوار النبي عليه الصلاة والسلام بربيع دائم من الأنس بالله، والهتاف باسمه. 

وكان النبي الجليل ـ كما وصفه ربه ـ سراجا منيرا يرمي بأشعته فى كل أفق، ويجمع الناس على وحدانية جياشة المشاعر والمسالك، تتصدر كونا كبيرا، كل شيء فيه يسبح بحمد ربه. 

شعرت بأبعاد العبودية التي قامت عليها سيرة النبي الخاتم في مناح كثيرة من حياته عليه الصلاة والسلام، ولكني تريثت طويلا عند طرفة عميقة الدلالة، رواها ابن عباس قال : (جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ فسجدتْ الشجرة لسجودي! فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه الصلاة والسلام!) 

قال ابن عباس: (سمعت رسول الله قرأ سجدة، ثم سجد، فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة!). هذه الطرفة، كما قلت، عميقة الدلالة فهي تدل على أن صاحب الرؤيا أحسن الاستفادة من تعاليم الإسلام حتى نضح ذلك على سريرته وهو نائم. 

وهي تدل كذلك على أن فؤاد الرسول المربي موار بعاطفة من حب الله يهيجها أي شيء، فقد التقط الدعوات المنسوبة إلى الشجرة، وأخذ يرددها هو في سجود خاشع لرب العالمين. وصلة الأنبياء بالله تتحرك للملابسات المثيرة. 

إن زكريا لما رأى القدرة العليا تتجرد من قانون السببية، وتسوق الفضل الإلهي إلى مريم بغير حساب، انعطف إلى ربه يجأر: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}[آل عمران:38]. 

ومحمد عليه الصلاة والسلام تربطه بنور السموات والأرض روابط فوق الحصر. وقد كان جهده أن يجعل البيئة كلها من حوله عابدة ساجدة ذاكرة شاكرة. 

روى النسائي عن يعقوب بن عاصم عن رجلين من أصحاب رسول الله أنهما سمعا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "ما قال عبد قط: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مخلصا بها روحه، مصدقا بها قلبه، ناطقا بها لسانه، إلا فتق الله له السماء فتقا، حتى ينظر إلى قائلها من الأرض! وحُق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤله". لا أحب أن أفسد هذا المعنى السمح بتكلف تأويل! كل ما يفيده الحديث المروي أن القلب الموحد قد تعرض له فورات إخلاص وصدق، تجعل كلمة التوحيد تنطلق من فمه، فما يقفها دون عرش الرحمن شيء! وما يشقى صاحبها بعدها أبدا

والتوحيد المذكور في هذه السنن يقوم على فقه لأسماء الله الحسنى، واصطباغ بمعانيها، والحامد لله أو المادح له أهل لأن يعود قرير العين. 

ويحضرني قول لأحد العارفين وقد سئل: ما أفضل الدعاء يوم عرفة؟ أجاب: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. 

قيل له: هذا ثناء، لا دعاء! قال: أما تعرف قول الشاعر: 

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حياؤك إن شيمتك الحياء! 

إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضه الثناء! 

روى الطبراني أنه كان مما دعا به النبي عليه الصلاة والسلام عشية عرفة: "اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري؛ أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير... مَن خضعت لك رقبته، وذل جسده رغم أنفه... اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين ويا خير المعطين "

وارتباط الثناء بالدعاء ملحوظ في قول النبي عليه الصلاة والسلام : " أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "

وكذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله ". ولننبه إلى أن حركة الشفتين ـ والقلب وسنان ـ لا تعني شيئا؛ أما عندما. يكون النطق ترجمة لشوق هائج، وفؤاد مفعم، فإن النعم على كثرتها تتصاغر أمام حمد مرسلها، والإحساس بمنته. 

عن أنس، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" وفي رواية: "لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك "

قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامه الحمد أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا، فثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى! وهذا تفسير حسن. 

والتفسير القريب أن حمد الله ـ تبارك اسمه ـ كافي في تقدير النعمة وتقييدها مهما كانت كبيرة. على أن إحسان الحمد والمدح لا يقدر عليه كل إنسان، كيف تمدح من تجهل؟ كيف تحمد من لا تعامل؟ الأمر يحتاج كما أشرنا إلى فقه في أسماء الله الحسنى يكشف عظمة الذات والصفات وذلك يقوم على جملة عناصر: 

منها تدبر القرآن الكريم حين يتحدث المولى الجليل عن نفسه ويبصر بآياته، إن الرجل العادي يستقبل النهار، ويستدبر الليل دون وعي، وهنا يستثير القرآن الكريم وعيه، من فعل ذلك؟ الله {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم}[الأنعام:96]. والمرء يرى ببلاهة مساحات هائلة من الحقول والحدائق ينشق فيها الطين الأصم عن أنواع كثيرة من الحبوب والفواكه. 

من صاغها على هذا النحو المعجب وحشاها بالسكر والنشا وشتى الطعوم والروائح؟ {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون}[الأنعام:99] بعد هذا اللفت المبين يتلطف السيد مع عبده، يتلطف رب العالمين في إيقاظ الجماهير الغافلة فيقول: 

{انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون}[الأنعام:99]

إن التأمل في الكون باب واسع إلى معرفة جملة من أسماء الله الحسنى، ودلالة هذه الأسماء على الله تبارك وتعالى. ومع التأمل في الكون يجيء التأمل في أحوال الأفراد والأمم، ودراسة التاريخ قديمه وحديثه، وكيف يعطي ربنا ويمنع، وكيف يُضحك ويُبكي؟!. 

إن المسافة لا تطول كثيرا بين قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38] وبين قوله حين شدته موجة غضب إلى قاع اليم: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين}[يونس:90]. ولكننا ـ معشر البشر ـ صرعى الساعة الحاضرة، وما نحسن دراسة سنن الله في الآحاد والجماعات. وكم من أمم ركبت رأسها ثم كُبت بعد أيام أو أعوام: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُور}[سبأ:17]. وقد حوى القرآن صنوف العبر من هذا القبيل حتى يعرف الناس ربهم ويحسنوا مراقبته وتقواه، وتنغرس في خلالهم مشاعر الرغبة والرهبة على نحو ما قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته! ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد! "

والمعرفة النظرية بالكون وعلومه والناس وتواريخهم يجب أن تتحول إلى إحساس وعمل، وإلا فهي كالطاقة الكهربائية المحبوسة وراء مواد عازلة ما تنير مصباحا، ولا تحرك آلة. 

وهنا أقول: إن أعظم إنسان عرف ربه، وتحولت كل ذرة في كيانه إلى قوة ساجدة هو محمد بن عبد الله الذي كان القرآن له خُلقا، فهو يستبطن معانيه ويدور مع توجيهه، إنه مشدود أبدا إلى آيات الله في الوحي الهادي والملكوت الواسع، وهو يجتذب من اتصل به إلى هذا المستوى الطهور العالي، فيجعله عارفا بالله، قواما بأمره. لذلك رأينا صحابته أصدق الناس إيمانا، وأصفاهم فطرة. ولست أصدق أن أحدا يجهل محمدا ثم يتخذ إلى الله طريقا موصلة.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين