فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (16)

إنَّ التوكُّل شعورٌ نفيس غريب، وهو أغلى من أن يخامر أي قلب، إنه ما يستطيعه إلا امرؤ وثيقُ العلاقة بالله تعالى حماس بالاستناد إليه والاستمداد منه. وعندما ينقطع عون البشر، وتتلاشى الأسباب المرجوَّة، وتغزو الوحشةُ أقطارَ النفس، فلا يردُّها إلا هذا الأمل الباقي في جنب الله تعالى! عندئذ ينهضُ التوكُّل بردِّ الوساوس وتسكين الهواجس. 

إنني بعين الخيال أتبعُ (هاجر) وهي ترمُق وليدَها الظامئ، ثم تجري بخطوات والهة هنا وهناك ترقبُ الغوث وتنتظر النجدة. إنَّ ظنَّها بالله حسن، وقد قالت لإبراهيم عليه السلام عندما تركها في هذا الوادي المجدب الصامت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت في رسوخ: إذن لا يُضيِّعُنا. 

وها هي ذي تتعرَّض للمحنة، وتنتظر تدخُّل السماء. وتدخلت السماء، وتفجرت زمزم، وغني الوادي بعد وحشة، وصار الرضيع المحرج أمة كبيرة العدد عظيمة الغناء، ومن نسله صاحب الرسالة العظمى، ومن شعائر الله هذا التحرُّك بين الصفا والمروة تقليداً لأم إسماعيل، وهي ترمق الغيبَ بأملٍ لا يخيب.

ما أحوجَ أصحابَ المُثل إلى عاطفة التوكل، إنَّها وحدها تكثرهم من قلة، وتعزهم من ذلة، وتجعل من تعلقهم بالله حقيقة محترمة، ولعل ذلك بعض ما تعنيه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158] قال المؤرخون: إنَّ إبراهيم عليه السلام لما ترك هاجرَ وابنَه يواجهان المصير المجهول في هذه البقعة المنقطعة عرض له الشيطان وهو ينقل أقدامه في منى ـ بعد ما أنفذ أمر الله ـ يقول له: أيترك أحدٌ أسرتَه تموت جوعاً وعطشاً على هذا النحو؟ عُد فاستنقذ أهلك! ولكن إبراهيم قذف الشيطان بالحجارة ومضى في طريقه يناجي ربه: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]. 

واستجاب الله تعالى للدعاء الخالص، وسقط كيد الشيطان فلم ينل شيئاً من قلب الإنسان المؤمن الواثق، وكانت سُنَّة رمي الجمرات ليعلم من يجهل أنَّ وعد الله حق، وأنَّ وسوسة الشيطان هُراء، وما تعمل هذه الوسوسة عملها إلا مع أصحاب القلوب الفارغة: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 99].

ومما يلفت النظر أنَّ القرآن الكريم لما أراد أن يَذْكُر رمي الجمرات بمنى لم يستعمل هذا العنوان المألوف، بل عبَّر عنه بذكر الله تعالى في أيام معدودات، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 203] كأنَّ المقصود من الموضوع هو الذكر الجهير العالي لرب العالمين، وما رمي الجمرات إلا رمز.

والحق أنَّ الحجَّ كله هو هذا الهدير الموصول بذكر الله من أمواج بشرية مُتصلة، لا شغل لها إلا الجؤار بالتلبية والهتاف بالتسبيح. 

ومن المؤسف أنَّ رمي الجمرات تحوَّل إلى عمل مُعنت تُزهق في زحامه أرواح ولا يستطيعه إلا أصحاب الجلادة والمغامرة! لماذا؟ لأنَّ الرأي الفقهي السائد أنَّ الرمي لا يصح إلا بين زوال الشمس وغروبها. فكانت الجماهير المتدفقة في ذلك الوقت العصيب تواجه المهالك، وقد رفضتُ شخصياً هذا الرأي لأني لم أعرف له إسناداً من كتاب أو سُنة، ورميت في أوقات خفيفة الحر والزحام!.

ومما يُسر الآن أنَّ الحكومة السعودية جعلت للرمي ميداناً أعلى وآخر تحته، وضبطت طريقي الذهاب والعودة، وفسحت المجال للقول بأنَّ الرمي يصح خلال الأيام المعهودة ليلاً ونهاراً، فاستنقذت بذلك أرواحاً وأعانت على طاعة؛ إنَّ هناك مسلمين يظنون الحج جملة مُشكلات معقَّدة، وهؤلاء عسَّروا اليسير واختلقوا بدعاً لا أصل لها حتى ظنَّ البعضُ أنَّ لكل شوط في الطواف دعاءً خاص، وأن لكل شوط في المسعى دعاءً خاصاً، وأُلِّفت كتب لهذه الأدعية ما أنزل الله بها من سلطان. 

وهناك أشخاص معلولو الفكر يظنون السعي على الأرض أولى من السعي في الدور الأعلى الذي أقامته الحكومة تخفيفاً لأهوال الزحام، وكذلك في رمي الجمار يظنون أنَّ الرمي على الأرض أهم من الرمي في الدور الأعلى! 

وما يدري هؤلاء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم طاف حول البيت فوق ناقته يشير إلى الحجر الأسود بعصاه من بعيد. 

إنَّ الحج عبادة رقيقة محبوبة أساسها الوقوف بعرفة والطواف حول البيت وبعض شعائر أخرى يمكن استيعابها بيسر دون قلق أو حرج. 

والدين كله يقوم على صدق الإخلاص ونُضج الأخلاق وحسن العلاقة بالله وبعباده، والقرآن الكريم يقول في الحج: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]. 

وهذه الرحلة بين الأماكن المقدَّسة تصقل الطبع وتزكي القلب، وتنمي مشاعرَ الحبِّ لله ولرسوله وجماعة المسلمين، فلا عجب إذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أثر هذه الفريضة الجليلة: (من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه).

ولقد ثبت أنَّ مكَّة مركز العمران في هذا العالم، واستطاع الدكتور (حسين كمال الدين) أستاذ الهندسة بجامعة الرياض أن يثبت بحسابات رياضيَّة عالية أن مكة تتوسَّط القارات المأهولة، وأنَّ وضعها الذي قرَّره العلم الحديث تفسير حقيقي لقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ...﴾ [الشورى: 7].

فحول الكعبة المشرفة دوائر متتابعة الرحابة من الرُّكَّع السجود، يتلوها غيرها من المسلمين الذين اتخذوا المسجدَ الحرام قِبْلتهم، وعلى امتداد خطوط الطول والعرض تسمع كلمات الأذان وتنحني الأصلاب والجباه رُكوعاً وسجوداً لأهل الحمد والمجد، ربِّ المشارق والمغارب، ربِّ العالمين.

في موسم الحجِّ تلتقي مكة بالوفود المقبلة من كل فجٍّ عميق، تلتقي بأفراد الإنسانيَّة الموحِّدة المهتدية المُحبَّة لله تعالى وللمسجد الأول أبي المساجد؛ في القارَّات كلها تتصافح الوجوه وتتعارف النفوس على تلبية النداء الصادر بحج البيت، النداء الذي صدر من قديم، وزاده الإسلام قوَّة وجِدَة: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ﴾[الحج:27-28].

ووفود الله تعالى القادمة إلى مكة تصنع مجتمعاً شغله الشاغل ذكر الله، والهتاف باسمه المبارك.

في الأحياء التجارية يكون تبادل السلع والأثمان هو الحركة السائدة.. في الدواوين الحكومية يكون تنقيل الأوراق من هنا وهناك مظهر الحياة البارز.

لكن الحجَّاج والعُمَّار يقيمون سوقاً للصالحات لها جؤار هائل بالتلبية والتكبير كأن الأرض تحوَّلت بهم إلى أفق يعجُّ بالملائكة المتعبِّدين.

قال النووي يرسمُ عملَ الحجيج: (ويستحب الإكثار من التلبية. يُستحب ذلك في كل حال، قائماً وقاعداً، ماشياً وراكباً، مُضطجعاً ونازلاً وسائراً، محدثاً وجُنباً وحائضاً. 

وعند تجدد الأحوال وتغايرها زماناً ومكاناً، كإقبال الليل والنهار، وعند الأسحار، واجتماع الرفاق، وعند القيام والقعود والصعود والهبوط والركوب والنزول، وفي أدبار الصلوات، وفي جميع المساجد).

ثم قال النووي رحمه الله تعالى: (وإذا رأى شيئاً أعجبه قال: لبيك، إنَّ العيش عيش الآخرة.. اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

ولبواعث هذا الإعجاب قصة، فقد روى الشافعي عن مجاهد رحمهما الله تعالى قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يُظهر التلبية: لبيك اللهم لبيك.. إلى آخرها حتى إذا كان ذات يوم والناس يدفعون عنه، فكأنه أعجبه ما هو فيه فقال: (لبيك إنَّ العيش عيش الآخرة). قال ابن جُريج: (حسبت أنَّ ذلك كان يوم عرفة).

من حق عشرات الألوف من الحجَّاج أن يزدحموا حول نبيِّهم، وهو يجأر بذكر الله تعالى، إنه صانع هذه السيرة وقائدها. 

لكن محمداً الضخم لا يزدهيه أن تزدحم حوله الأتباع، إنَّ فؤاده المعلَّق بالله سبحانه، المرتقب للقائه، جعله يذكر الآخرة، ويؤمل في غدها القريب.

ولقد سُمع وهو على الصفا يقول: (الله أكبر الله أكبر. الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر على ما هدانا. والحمد لله على ما أولانا. 

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد. يُحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الذين، ولو كره الكافرون. اللهم إنك قلت: ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾ وإنك لا تخلف الميعاد. وإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم)!.

سبحان الله، أمل الرسل الكرام من قبل! إنَّ يوسف الصديق ـ بعدما أوتي الملك ـ دعا الله أن يُميته على الحق: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].

كذلك يدعو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه، وهو في حَجَّة الوداع، بعدما نكَّس الأوثان، ومحا الجاهلية وأقام دولة التوحيد! والجميل أنَّه بعد خمس سنين من غزو الأحزاب للمدينة يذكر النصر الذي منحه القدر، والذي جاء نجدة مشرقة بعد كفاح مُعنت رهيب.

إنَّه الله! أنجز وعده وهزم الأحزاب وحده، وما كان غيره يَفُلُّ حدَّهم ويمزِّق شملهم ويبطل كيدهم.

إنَّه الله! أهل الحمد والثناء، وأهل التقوى وأهل المغفرة!. 

هل استراح الإيمان وحملته بعد هذه المعارك المظفرة؟ كلا... إنَّ القوى الكافرة ستظل تبغض الحقَّ ورجاله، وتقلب لهم الأمور، بيد أنَّ رجالات الإسلام سيمضون في الطريق إلى نهايته ولو كره الكافرون.

تتبعتُ كلماتِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في مَناسك الحج، ظاناً أني سأطالع أدعية مُستفيضة ففوجئت بوجازة الكلمات التي قالها!.

لكن المسلمين أحدثوا لكل شوط في الطواف أو السعي ورداً يُتلى، وأحدثوا ليوم عرفة أدعية مسهبة، والعاطفة وراء هذا الإلحاح مقدورة، والمقبل على الله سبحانه لا يُستغرب منه أن يستعين بكل كلمة تترجم عن شوقه وأمله، وأن يتشبث بكل حرف يظنه مفتاحاً لخزائن الرحمة العُليا.

إنَّ أي مسلم ينشد لنفسه وأهله الرضا والقرار، فهو يقول مع موسى الكليم: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24].

والدعاء الذي لم يسأم النبيُّ تكراره في الطواف والسعي: ﴿...رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].

والنشيد الذي يتردَّد بين قمم الجبال وبطون الأودية هو: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، الألوف المؤلفة تصرخ به، وتتلاقى عليه.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين