(نبي الرحمة) (6)

المرحلة الأولى للدعوة (السرية):

وحيث إن قومه كانوا جفاة يعبدون الأصنام، فقد كان من الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم.

كان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام أولًا على ألصق الناس به من أهل بيته وأصدقائه، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة، وابن عمه علي بن أبي طالب ـ وكان صبيًا يعيش في كفالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ, وصديقه الحميم أبو بكر الصديق. وقد أسلم هؤلاء في أول يوم الدعوة.

ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلًا محببًا سهلًا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد الله التيمي, فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام.

ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، و خَبَّاب بن الأَرَتّ , وعبد الله بن مسعود الهذلي وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون, وهم من جميع بطون قريش, وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفراً. قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتُحدث به. 

أسلم هؤلاء سراً، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفياً، لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمي نزوله بعد نزول أوائل المدثر. 

وكانت الآيات وقطع السور التي تنزل في هذا الزمان آيات قصيرة، تشتمل على تزكية النفوس، تصف الجنة والنار كأنهما رأي عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك.

إظهار الدعوة:

أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: الآية ٢١٤]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا, فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بادره أبو لهب وقال: هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصٌّباة(يعني المسلمين)، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بِشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس.

ثم دعاهم ثانية وقال: (الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له). ثم قال: (إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا).

فقال أبو طالب: ما أحبَّ إلينا معاونتك، وأَقْبَلَنَا لنصيحتك، وأشدَّ تصديقنا لحديثك, وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.

فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا.

على جبل الصفا:

بعد ما تأكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته، وهو يبلّغ عن ربه، قام يوماً على الصفا فصرخ: (يا صباحاه)- [وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم]، فعن ابن عباس قال: لما نزلت{وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا فجعل ينادي: (يا بني فهر!. يا بني عدي! لبطون قريش)، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش, فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيْتَكمْ لوْ أخْبرْتُكمْ أنَّ خيْلاً بالْوادي تريد أنْ تُغِير عليكم أكُنْتم مُصَدِّقيَّ؟)قالوا: نعمْ؛ ما جرَّبْنا عليْك إلا صدْقًا، قال: (فإنِّي نذيرٌ لكمْ بيْن يدَيْ عذابٍ شديدٍ).

فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: { تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ}.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت{وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعم وخص. فقال: (يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً، إلا أن لكم رحماً سأبلُّها ببلالها).

ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: ٩٤] فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالدعوة إلى الإسلام في مجامع المشركين ونواديهم، يتلو عليهم كتاب الله، ويقول لهم ما قالته الرسل لأقوامهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩]، وبدأ يعبد الله تعالى أمام أعينهم، فكان يصلي بفناء الكعبة نهارًا جهارًا وعلى رؤوس الأشهاد.

وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول، ودخل الناس في دين الله واحدًا بعد واحد. وحصل بينهم وبين من لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشمأزت قريش من ذلك، وساءهم ما كانوا يبصرون.

المجلس الاستشاري لكف الحجيج عن استماع الدعوة:

خلال هذه الأيام أهم قريشًا أمر آخر، وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم. قالوا: فما نقول؟، قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.

وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر. {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر: ١١-٢٧].

وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره.

أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب.

وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم) من سلسلة نبي الرحمة.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين