(نبي الرحمة) (5)

جبريل ينزل بالوحي إليه صلى الله عليه وآله وسلم:

لما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال، وقيل:ولها تبعث الرسل ـ بدأت آثار النبوة تلوح وتلمع، فمن ذلك أن حجرًا بمكة كان يسلم عليه، ومنها أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وآله وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن.

وكان عمره صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا.

ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبوة، قالت عائشة رضي الله عنها:

أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ, قال: (ما أنا بقارئ)، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } [العلق ١-٣]، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: (زَمِّلُوني زملوني)، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: (ما لي - فأخبرها الخبر- لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أو مخرجيّ هم؟) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي، وفَتَر الوحي.

جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية:

بقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيام الفترة كئيبًا محزونًا تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري:

وفتر الوحي فترة حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوْفى بذِرْوَة جبل لكي يلقي نفسه منه تَبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه، وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.

قال ابن حجر:وكان ذلك [أي انقطاع الوحي أيامًا] ؛ ليذهب ما كان صلى الله عليه وآله وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجيء الوحي، جاءه جبريل للمرة ثانية. قال صلى الله عليه وآله وسلم:

(فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، [فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَجُئِثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني، زملوني، فزملوني), فأنزل الله تعالى: (ياأيها المدثر) إلى قوله (فاهجر)، ثم حمي الوحي وتتابع.

وهذه الآيات هي مبدأ رسالته صلى الله عليه وآله وسلم. وتشتمل على نوعين من التكليف:

النوع الأول: تكليفه صلى الله عليه وآله وسلم بالإبلاغ والتحذير، وذلك في قوله تعالى: { قُمْ فَأَنذِرْ} أي: حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغي والضلال والشرك.

النوع الثاني:تكليفه صلى الله عليه وآله وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه على ذاته، ليحرز بذلك مرضاة الله، ويصير أسوة حسنة لمن آمن بالله. فقوله: { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }, { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }, { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}, { وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}, { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوي بانتداب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر إلى الجهاد والكفاح والمشقة:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ}، ما لك والنوم والراحة؟ قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.

أقسام الوحي ومراتبه:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو يذكر تلك المراتب:

إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وآله وسلم.

الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).

الثالثة: إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل له الملك رجلًا فيخاطبه حتى يَعِيَ عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا.

الرابعة: كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى أن جبينه ليتَفَصَّد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.

الخامسة: إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.

السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.

السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك, كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن, وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو في حديث الإسراء.

يتبع....

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين