(نبي الرحمة) (4)

بناء الكعبة وقضية التحكيم

لخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وآله وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لأن الكعبة كانت رَضْمًا فوق القامة (الرضم: الأحجار الكبيرة فوق بعضها)، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديمًا ـ للعوادي التي أدهت بنيانها، وصدَّعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألا يُدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يُدخلون فيها مهر بَغِيّ ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي، فأخذ المعول وقال: اللّهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها, فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه: باقوم. ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكِّموا فيما شجر بينهم أوّل داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداءً فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم.

وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوًا من ستة أذرع، وهي التي تسمَّى بالحِجر والحطيم، ورفعوا بابها عن الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة.

وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا، يبلغ ارتفاعه ١٥مترًا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له ١٠ أمتار، والحجر موضوع على ارتفاع ١.٥ متر عن أرضية المطاف. والضلع الذي فيه الباب والمقابل له ١٢متراً، وبابها على ارتفاع مترين عن الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها 0,25 متراً(25سم) ومتوسط عرضها 0,30 مترًا(30سم) وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها.

السيرة الإجمالية قبل النبوة:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظًا وافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشؤون الناس وأحوال الجماعات، فعاف الخرافة، ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حَسَنًا شارك فيه وإلا عاد إلى عُزلته، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالًا، بل كان من أول نشأته نافرًا من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى أنَّه كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى.

ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض مُتع الدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس, فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة. ثم ما هممت بسوء).

وروى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: (إزاري، إزاري) فشد عليه إزاره, وفي رواية: فما رؤيت له عورة بعد ذلك.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه: [الأمين] لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت خديجة رضي الله عنها: يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق.

النبوة والدعوة - العهد المكي:

تنقسم حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن شرفه الله بالنبوة والرسالة إلى عهدين وهما:

1 ـ العهد المكي، ثلاث عشرة سنة تقريبًا.

2 ـ العهد المدني، عشر سنوات كاملة.

ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثلاث مراحل:

1 ـ مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنوات.

2 ـ مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.

3 ـ مرحلة الدعوة خارج مكة، من أواخر السنة العاشرة من النبوة. وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى الله عليه وآله وسلم.

أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه.

التعبد والعزلة في غار حراء:

لما قاربت سنه صلى الله عليه وآله وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السَّوِيق والماء، ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على بعد نحو ميلين من مكة ـ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ـ فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.

وكان اختياره صلى الله عليه وآله وسلم لهذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات طرفًا من تدبير الله له، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ.

يتبع...

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين