التغلُّب مفسدة: تسقطُ به العدالة ولا تُصحَّح به الولاية (2)

الآثار الفقهية المترتبة على التغلُّب (2)

المبحث الأول: الآثار الفقهية المترتبة على التغلُّب

1- التغلب فسق يمنع البيعة وقبول الشهادة

التغلب فسق، وإذا ثبت أنه فسق فلن تُقبل شهادته، وكونه حاكمًا بالقوة لا يُغيِّر من الأمر شيئًا، يقول الجويني: "فإن الذي ينتهض لهذا الشأن لو بادره من غير بيعة وحاجة حافزة... أشعر ذلك باجترائه وغلوه في استيلائه...، وذلك يسِمه بابتغاء العلو في الأرض بالفساد، ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق، وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت فاستمسك بعُدَّته محاولًا حمل أهل الحل والعقد على بيعته فهذا أيضا من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق، فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة لم يجز أن يبايع، وإنما التصوير فيه إذا ثار لحاجة ثم تألبت عليه جموع لو أراد أن يتحول عنهم لم يستطع، وكان يجر محاولة ذلك عليه وعلى الناس فتنًا لا تطاق ومحنًا يضيق عن احتمالها النطاق، وفي استقراره الاتساق والانتظام ورفاهية أهل الإسلام...، والمختار أنه وإن وجب تقريره فلا يكون إمامًا ما لم تجر البيعة، والمسألة في هذا الذي ذكرناه مظنونة، والمقطوع به وجوب تقريره"(1) ويقول العز بن عبد السلام: "قلنا إذا تكررت منه الصغيرة تكرُّرًا يُشعر بقلة مبالاته بدينه إشعارَ ارتكابِ الكبيرة بذلك رُدَّت شهادته وروايته بذلك"(2) ولا يكون الردُّ في ابتداء التَّغلُّب فقط بل يبقى المتغلِّبُ فاسقًا طيلة حكمه من هذه الحيثية؛ إذ من القواعد المقررة في الشرع أن الفسق وصف يلتحق بالشخص ولا يُزال هذا الوصف إلا بزوال سببه، فالكذب والغيبة فسق ولا يتحول صاحبهما إلى عدل ما دام مصرَّا على ذلك، ومثل ذلك الحاكم المغتصب لحقِّ الآخرين، وظاهر في نص إمام الحرمين أنَّه إن كان تغلُّبه لحاجة عامة لا يُفسَّق إلا إذا زالت الحاجة فاستمسك بعُدَّته محاولًا حمل أهل الحل والعقد على بيعته رغم زوال الحاجة إلى التغلُّب.

هذا مع ملاحظة أن الفسق إنما هو من هذه الحيثية، ولا يلزم من هذا أنه لن يكون له خير أو ألَّا يقبل له عمل فذاك شأن آخر، فالحاكم المتغلب ظالم فاسقٌ، ولا تُقبل شهادة الفاسق اتفاقًا بين العلماء، ولم يقع تخصيص قبولها بحاكمٍ أو قاضٍ، يقول العز بن عبد السلام: "ولا تقبل الشهادة إلا من عدل"(3)، وجاء في شرح مختصر خليل: "شهادة الفاسق مردودة اتفاقًا"(4)، وقال الشافعي: "شهادة العبد أقرب من شهادة الفاسق لأن ردَّ شهادة الفاسق بالنص، قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وردُّ شهادة الفاسق متفق عليه"(5)، وعند الحنبلية "شهادة الفاسق كعدمها"(6) ولا يلزم من ردِّ شهادة الحاكم لفسقه عدمُ نفاذِ تصرفاته.

2- التغلُّب كبيرة

نجزم بأن التغلب كبيرة من الكبائر، ودليل هذا أنَّ فيه ظلمًا للآخرين، وظلم الآخرين كبيرة، وبيان ذلك أن فيه ظلمًا من طرفين؛ فهو أخذ لحقِّ من له أهلية الحكم وهذا ظلم، وهو ظلم لمن له أهلية تنصيب الحاكم سواء أكانوا هم أهل الحلِّ والعقد أم سائر الناس كما هو مشاهد اليوم، وقد جاء الظلم بمعنيين؛ الأول: التصرف في حق الغير الذي لا يملكه المتصرف، والثاني: وضع الشيء في غير موضعه (7)، ومؤدَّى المعنَيين واحدٌ، فإنَّ من تصرف في غير ملكه يضع الشيء في غير موضعه، ومن يضع الشيء في غير موضعه فهو ظالم.

وقد يُعترض على هذا بأنه لا دليل مقطوع به يؤكد أنَّ التغلب كبيرة، والجواب أنَّ الظلم أيَّا كان هو من الكبائر لأن فيه أخذًا لحق الغير، فمن غصب 100 مائة ليرة من آخر بالقوة عُدّ ظالِمًا تُردُّ شهادته، فكيف من غصب حقَّ الأمة في التَّرشح وحقَّها في الترشيح وأناب نفسه منابها؟ وحتى لو أنا سلمنا جدلًا بأنَّ التغلُّب صغيرة فالاستمرار في الحكم يجعل منه مصرًّا عليها فتصبح كبيرة، يقول العز بن عبد السلام: "فإن قيل: قد جعلتم الإصرار على الصغيرة بمثابة ارتكاب الكبيرة فما حد الإصرار أيثبت بمرتين أم بأكثر من ذلك؟ قلنا إذا تكررت منه الصغيرة تكررا يُشعر بقلة مبالاته بدينه إشعارَ ارتكابِ الكبيرة بذلك ردت شهادته وروايته بذلك"(8) فالإصرار على الصغيرة يُلحقها بالكبيرة، فلو فرضنا جدلًا أن التغلب من الصغائر فالاستمرار عليه يُلحقه بالكبائر.

ننبه إلى مسألة مهمة ينبغي أن لا تلتبس علينا، وهي أننا إذا قررنا مفسدة التغلب وأن المتغلب فاسق مرتكب للكبيرة وأنَّ شهادته تُردُّ، فلا يلزم من هذا البتة عدم نفاذ تصرفاته، فتصرفاته تنفذ لئلا يقع ضرر على الأمة، فعدم الاشتراط ليس تزكية له بل لتنفذ تصرفاته، ونفاذ تصرفاته ليس دليلًا على عدالته، وإنما لرفع الحرج عن المحكومين، يقول العز بن عبد السلام أثناء حديثه عمن تُشترط فيه العدالة: "وأما الإمامة العظمى ففي اشتراط العدالة فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والولاة والسعاة وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وبذل ما يعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم؛ فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق لِما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان"(9).

فنفاذ تصرفاته شيء والعدالة شيء آخر، ومعنى هذا أنّ نفاذ تصرفاته لا يزيل الفسق عنه لأنَّه ارتكب فعلًا مُخلًّا بالعدالة كالتَّغلُّب، وإذا كان فاسقًا فلا تقبل شهادته لاختلال شرط العدالة، يقول ابن رشد: "واختلفوا فيما هي العدالة، فقال الجمهور: هي صفة زائدة على الإسلام، وهو أن يكون ملتزمًا لواجبات الشرع ومستحباته مجتنبًا للمحرمات والمكروهات، وقال أبو حنيفة: يكفي في العدالة ظاهر الإسلام وأن لا تعلم منه جرحة، وسبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق، وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عرفت توبته إلا من كان فسقه من قِبَل القذف، فإن أبا حنيفة يقول: لا تقبل شهادته وإن تاب، والجمهور يقولون: تُقبل"(10). نفهم من هذا النص أمورًا:

الأول: الاتفاق على عدم قبول شهادة الفاسق، الثاني: العدالة شيء زائد على الإسلام، الثالث: تُقبل الشهادة إنْ تاب. وخلاصة هذا أنّ المتغلب لا تُقبل شهادته إن لم يتب، وحتى على مذهب أبي حنيفة يكون المتغلِّب فاسقًا لأنه صدر منه أمرٌ جارح له.

3- التَّغلُب مُخِلٌّ بأهلية الحاكم للإمامة

بيَّنا أن التغلب مفسدة وأنه فسق وكبيرة تُردُّ به شهادة الحاكم، لكن هل الحاكم المتغلبُّ يبقى أهلًا للإمامة؟

ذكرْنا أن لأهلية الإمامةِ شروطًا منها العدالة، وأن لصحته طريقين هما الاختيار أو تولية من له أحقية ذلك، وخلصنا إلى أن التغلب كبيرة وفسق يخل بشرط العدالة ابتداءً وانتهاءً، فكل متغلب فاسق وإن استجمع صفات الإمامة وشروطها ومقصدَها، ولا يتصف بالعدالة إلا بارتفاع الفسق، ورفعُه رهنٌ بزوال التغلب الذي فسَّقه وسلبَه العدالة؛ فعلى هذا يكون التغلب مانعًا ابتداءً وانتهاءً من كون المتغلِّب أهلًا للإمامة لتلبُّسِه على الدوام بموانعِ أهليةِ الإمامة ولخروجِه عن طرق استحقاقها كما سأذكره مفصلًا نقلًا عن الإمام الجويني في حالات فسق الحاكم ابتداءً أو انتهاءً. يقول السرخسي في عدم قبول شهادة الفاسق: "ولكنا نقول: الفسق لا يخرجه من أن يكون أهلًا للإمامة والسلطنة؛ فإن الأئمة بعد الخلفاء الراشدين -رضي الله تعالى عنهم- قلما يخلو واحد منهم عن فسق، فالقول بخروجه من أن يكون إمامًا بالفسق يؤدي إلى فساد عظيم"(11).

قد بدا أنَّ ثَمة شيئًا من عدم الانسجام بين العنوان وما نقلناه عن السرخسي رحمه الله، وفي الواقع لا تناقض بين الأمرين فالسرخسي يتحدث عن حالة أخرى هي حالة الخروج عليه لفسقه، وهذه المسألة لم نقصدها هنا؛ فعدم الأهلية شيء والخروج شيء آخر، فليس كلُّ ما يخلُّ بالأهلية يستلزم الخروج، ففقدان الحواس للحاكم يُخِلُّ بأهليته ولا يستلزم ذلك خروجًا.

4- تصحيح ولاية المتغلِّب يخالف مقاصد الشارع وينسف شروط الإمامة

ما دام المتغلب ممارسًا للغلبة فهو فاسق، وسكوت الناس عنه لا يحولُّ حكمه إلى طريقة صحيحة، وحكم سكوتهم عليه كحكم آكل الميتة المضطر إليها، ولو افترضنا أنه بقي سنوات يأكل منها فلن يكون هذا الأكل من الطيبات، يقول حجة الإسلام الغزالي عند حديثه عن شروط الحاكم: "فإن قيل: فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظوارت، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها -وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها- فأيُّ أحواله أحسن؛ أَن يقول: القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدِمون على الحرام؟ أو أن يقول: الإمامة منعقدة، والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار؟"(12).

والواضح الجليُّ من هذا أنَّ انعقاد الإمامة هو انعقاد لحظي بحسب الظروف، وهو أهون الشرور؛ لأن البديل أسوأ وهو القول بأنَّ إمامته ليست منعقدة أصلًا لما يترتب على ذلك من مفاسد، وهذ المعنى أكَّده العز بن عبد السلام بقوله: "تصحيح ولاية الفاسق مفسدة لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية، لكنها صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة، ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد؛ إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل، والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق -مع عدم ولايتهم- لضرورة الرعية كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم أمانته؛ لأن ما ثبت للضرورة يُقدر بقدرها والضرورةُ في خصوص تصرفاته، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة"(13).

فمن قال بطاعته لا يقصد أنها طريق شرعي صحيح، فالطاعة لا تعني الصحة بل هي درءٌ لما هو أسوأ، وعلى هذا نفهم قول ابن بطال: "والفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم في الأغلب، فإن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء"(14) وكلمة خير هي صيغة تفضيل، والأمر مُعلَّل بإقامة الجمعات، وإقامة هذه الأشياء لا تعني الشرعية له كما أن عدم الشرعية لا يستلزم الخروج، فذاك منضبط بالمصالح والمفاسد.

وكثيرًا ما يجد الحاكم المتغلبُ أشخاصًا ضعاف النفوس يريدون الارتزاق منه، أو من يخاف سطوته، أو من يبالغ في الخوف من الفتنة، أو من لم يطلع اطِّلاعًا كافيًا على السياسة الشرعية وأبعادها وضرورة العدل في الحكم، فيسعى لجعل خلافة المتغلب خلافة شرعية، وهذا ينطبق على كثير من الصُّور، ومنها تنصيب بشار الأسد بعد أن نَفَقَ أبوه، فقد تراكض الناس للمباركة له والتبشير بعهده وكأنها خلافة شرعيَّة، وكان على رأسهم بعض الشيوخ الذين كانت تُشدُّ إليهم الرحال.

ومن الملاحظ أنه يتم التعلل بالسكوت عن المتغلبة خوف الفتنة وانجرار الناس إلى التهارج والقتل، والذي ينبغي أن يُعلم ابتداء أن السكوت عن المتغلبة مخالفٌ لمقاصد الشرعِ في استقرار الأمة وإسنادِ الكفاءات لأصحابها والعيشِ في اطمئنان بعيدًا عن التقلبات والانقلابات، فالقول بالسكوت عن المتغلب هو عيش في تخوف وتوجس دائم، وهو سبب لعدم إطلاق طاقات الأمة ولتركِ الانشغال بمصالحها العامة خاصة الوقوف ضد الأعداء؛ فمن يساند ويساعد المتغلبة ويفتي لهم فهو ظالم لنفسه ولغيره، وقولهم بصحة التغلب يلغي شروط الإمامة كالإسلام والعقل والبلوغ...، والصفات المكتسبة كالعلم والورع والنجدة(15)، والقول بصحة التغلب يجعل كلَّ من ليس أهلًا للإمامة متقدِّمًا إليها راغبًا فيها، بل تصبح حُلُم الفُجّار والعصاة لأنهم يرون فيها مكسبا لهم ولكل من كان معهم، وقد نصَّ الشافعية على عدم انعقاد بيعة المتغلب الذي يأتي خلف حاكمٍ تمت له البيعة، يقول الخطيب الشربيني: "أما الاستيلاء على الحي؛ فإن كان الحي متغلبًا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إمامًا ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه"(16).

5- إزالة الحاكم الفاسق مرتبطة بالمصالح والمفاسد، والمُعتبر في ذلك غلبة الظَّن وليس اليقين

ذكر الجويني أنَّ بقاء الناس من غير والٍ هو خير من إقرارِ والٍ يكون عونًا للظالمين ونهبًا لخيرات المحكومين وبيعًا للبلاد ووبالًا على العباد، يقول الجويني: "وترك الناس سدًى ملتطمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشمين وموئل الهاجمين"(17).

لكن كيف يُزال هذا الفاسق وما حكم إزالته؟

يرى الجويني أنَّ الحلَّ في مثل هذه الحال هو نصب إمامٍ آخر يختاره أهل الحلِّ والعقد، يقول الجويني: "إن تيسر نصب إمام مستجمع للخصال المرضية والخلال المعتبرة في رعاية الرعية، تعيَّن البدار إلى اختياره، فإذا انعقدت له الإمامة واتسقت له الطاعة على الاستقامة فهو إذ ذاك يدرأ من كان...؛ فإن أذعن فذاك، وإن تأبَّى عامله معاملة الطغاة وقابله مقابلة البغاة...، وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب إمام دون اقتحام داهية وإراقة دماء ومصادمة أحوال جمَّة الأهوال وإهلاك أنفس ونزف أموال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض وقوعه في محاولة دفعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يُقدَّر وقوعُه في روم الدفع، فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز، وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون إلى ما الخلق مدفوعون إليه، فلا يسوغ التشاغل بالدفع، بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع، وقد يقدم الإمام مُهمَّا ويؤخِّر آخر"(18).

والملاحظ أنَّ حديث الجويني هنا وفي الفقرة السابقة أوسع من قضية المتغلب، ولعلنا نتوسع في ذلك في بحثٍ قادم، ويُعدّ كلامه مهمًّا في تحديد ضابط التخلُّص من الحاكم الفاسق، وأساسه الإمكان وظاهر الظَّن؛ إذ اليقين في مثل هذه المسائل متعذرٌ، وأحكام الإمامة ظنية، فإن أمكن تنصيب إمام آخر عوضا عن هذا الفاسق فذاك وإن تعذَّر إلا بسفك دماء وبنزول المحن والبلاء فالأمر يُقاس بغلبة الظن؛ فإن كان المظنون هو إراقة دماء أكثر حتى يُزاح فيتعين البقاء على الأمر الواقع وإلا فيتم التخلُّص منه، هذا مع ملاحظة أمرين؛ الأول: أن يُخلَع الحاكم الفاسق أولًا ثم ينصَّب الثاني، ويقوم الثاني بدفع الأول كما يُدفَع البغاة. الثاني: لا يُشترط الإجماع في الخلع والتنصيب، والمطلوب هو الشوكة عند الخلع والعقد فقط (19).

يتبع...

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد الثامن

انظر الحلقة الأولى: هنا

(1)غياث الأمم في التياث الظلم، ص327. 

(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين بن عبد السلام، تح: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية 1991 م، 1/27.

(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/78.

منح الجليل شرح مختصر خليل، 8/ 348.(4)

(5) نهاية المطلب في دراية المذهب، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، تح: عبد العظيم الدّيب، دار المنهاج، الطبعة الأولى،2007م، 19/ 68.

(6) الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 293.

(7) انظر في هذين المعنيين: الغزالي، قواعد العقائد، تح: موسى محمد علي، عالم الكتب– لبنان، الطبعة الثانية، 1985م، ص204، 204. الشهرستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، ص101. تفسير الطبري، محمد بن جرير، تح: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 2000م 1/77، تفسير الطبري، 1/523. تفسير الرازي 25/77، ويقول السيوطي: "كتاب المظالم: جمع مظلمة، مصدر ظلمة، اسم لما أخذ بغير حق، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، والغصب: هو أخذ مال الغير بغير حق" تح: رضوان جامع رضوان، مكتبة الرشد– الرياض، ط1، 1998م، 4/ 1702.

(8) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 27.

(9) المصدر السابق، 1/79.

(10)بداية المجتهد 6/211).

(11) المبسوط، السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة– بيروت، 1993م، 5/ 32.

(12) الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، تح: عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، بيروت– لبنان، الطبعة الأولى، 2004م، ص130. المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر: 4/ 583.

(13) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/107.

(14) شرح صحيح البخارى لابن بطال، تح: ياسر بن إبراهيم، دار النشر: مكتبة الرشد- السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1423هـ- 2003م، 2/ 328.

(15) الجويني، غياث الأمم، ص82.

(16) مغني المحتاج، 5/ 423.

(17) غياث الأمم، ص106.

(18) المصدر السابق، ص109.

(19) المرجع نفسه، ص126. 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين