التغلُّب مفسدة: تسقطُ به العدالة ولا تُصحَّح به الولاية (1)

الأصل في نتيجة الدراسات أن تكون في الخاتمة، وإنما أدرجتها في العنوان لألفت نظر القارئ إليها، علمًا أنَّها لم تكن إلا بعد بحثٍ ودرْسٍ معمَّقٍ شامل.

أهميةُ البحث: ضبطُ حكمِ المتغلب وآثاره، خاصَّةً أننا في أيامٍ كثُر فيها متغلبون لا يعدمون من يفتي لهم بأنَّهم يمثلون الحاكم الشرعي الذي ينبغي أنْ يُطاع، وكثير من حُكَّام الأمس واليوم متغلبون، فعائلة الأسد مثلًا متغلبة، والسيسي وخليفة حفتر كذلك.

حدود البحث: تحديد مفسدة التغلُّب، ووجهُ بطلان ولاية المتغلب ولو استمرت، وتفصيلُ موقف الإمام الجويني من ذلك بتوسع اقتضاه المقام.

مصطلحات الدراسة

التغلُّب عرفًا: الحكم بالقوة الفعلية كالانقلابات العسكرية، أو بالقوة الحُكميَّة كأنْ ولَّاه أو ورَّثه الحكمَ متغلبٌ سابقٌ أو خلَفَه مِن غيرِ استشارةٍ مع وجود خوفٍ من معارضته وعدم الرضا به حتى ولو كان صالحًا لذلك، وهذا هو المعنى المقصود به هنا، أما لغةً فهو اسم فاعل من الخماسي (تغلَّب) والثلاثي منه (غَلَبَ)، ومادة غلب عند ابن فارس تدل على القهر والقوة والشدة، ومنه قوله تعالى {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3](1) فالقوة شرط لازم للمتغلب.

التغلُّب في المصطلح الفقهي أخصُّ من التّغلُّب بالمعنى العرفي:

تبيَّن لي أنّ المتغلب إذا أُطلق في كتب الفقه فهو من زاحم غيره بالقوة مع اتِّصافه بالصفات المطلوبة في الحاكم من سلامة الأعضاء وغيرها، وأما إذا قُيِّد فيكون متغلبًا مقيَّدًا بأنه ليست فيه الصفات التي تؤهله، والدليل على هذا أن الجويني -وهو أوسع من تحدَّث عن ذلك- لم يذكر من حالات التغلُّب ما لو كان المتغلب لا يُؤتمن على دين وأخلاقٍ، وبعض كتب الفقه تصف المتغلب بكونه جامعًا لشروط الإمامة، يقول الشربيني: (وثالثها باستيلاء شخص -متغلبٍ على الإمامة جامعٍ الشروطَ المعتبرة في الإمامة- على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين، أما الاستيلاء على الحي؛ فإن كان الحي متغلبًا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إمامًا ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه"(2).

والمعنيُّ بثالثها ثالث طرق الوصول إلى الحكم، والملاحظ هنا تقييد المتغلب بكونه جامعًا لشروط الإمامة وبموت الإمام، وليست غايتُه دنيويةً كما يفعل متغلبة اليوم، وهذا شيء ينبغي ملاحظته لضبط مقصد المتغلب، فحرصه هو حرصٌ على النفع العام لكن رغم هذا عُدَّ متغلِّبًا لكونه ليس هو الوحيد ولم يَجْرِ اختياره، فمن وصل للحكم بطريقة شرعية لا يُزاح بالمتغلب ولا تنعقد إمامة المتغلب، فينبغي استحضار هذا المعنى الذي سنؤكده.

-المفسدة: ما يلحق بالشيء من ضررٍ يفوق المصلحة، فالمفسدة والمصلحة كِفَّتَا ميزان لتصرفات الإنسان، وضابطهما هو الشرع عند أهل السنة، فما حسَّنه الشرع وحثَّ عليه فهو مصلحة وإلا فهو مفسدة.

-الفاسق: هذا وصف للحاكم المتغلب، والمقصود أن ما ارتكبه هو اغتصاب لحقِّ الأمة وهذا فسق، والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى، يقول الماتريدي: "والفسقُ هو الخروج عن أمر اللَّه"(3) ويقول ابن الجوزي: "والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته"(4)، ويقول منلا خسرو: إذا "أطلق في لسان الشرع يراد به الخروج عن طاعة الله"(5) ويقول الشوكاني:" والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية"(6) وهذه التعريفات عامة لم تُخَص بنوعٍ معيَّن، ومن المقطوع به أنَّ الكبيرة فسق، قال في التعريفات الفقهية: "الفِسق في اللغة عدمُ إطاعة أمر الله، وفي الشرع: ارتكابُ المسلم كبيرةً قصدًا أو صغيرة مع الإصرار عليها بلا تأويل"(7).

-لا تُصحَّح: استخدمتُ تعبير "لا تُصحح" عوضًا عن "لا تصح" لئلا يُفهَم من ذلك أن التَّغلُّب بحدِّ ذاته يقتضي خروجًا على السلطان؛ فذاك أمر مرهونٌ بالمصالح والمفاسد التي يُقدِّرها أهلُ الخبرة والمعرفة، وثمّة مقصد آخر وهو أن صيغة "تفعَّل" تدل على الصيرورة والتحول، ومعنى ذلك أنَّ الاستمرار في الحكم لا يُصيِّره حكمًا صحيحًا كما لو انتخبه غيرُه، هذا مع ملاحظة أنَّ للوصول إلى الحكم طريقين لا ثالث لهما: الاختيار وتولية عهد ممن له أحقية بذلك، يقول الجويني رحمه الله: "وثبوت الإمامة من غير تولية عهد من إمام أو صدور بيعة ممن هو من أهل العقد أو استحقاقٍ بحكم التفرد والتوحد بعيدٌ"(8).

وشروط الإمامة -ومنها الاختيار والتولية- منثورة في كتب الفقه وخاصة السياسة الشرعية، ومن هذه الشروط سلامة الحواس والصفات اللازمة كالإسلام والذكورة والحرية والعقل والبلوغ، ومنها صفات مكتسبة كالعلم والورع والنجدة(9)، وما من كتابٍ في الفقه إلا وذكر العدالة على أنها شرط في الإمامة لا يُستغنَى عنه، والذي يعنينا من ذلك شرط العدالة لارتباطه بالتغلُّب.

الحاكم:

التغلُّب إنما يصدر من حاكمٍ أي رئيس بالمصطلح المعاصر، وهو الذي يحكم جماعةً من الناس ضمن جغرافية مُحدَّدة صغيرة كانت أم كبيرة ما دام الناس قد رضوا به، فلا أرى فرقًا في الحكم هنا بين أن تكون الرئاسة بهذا المعنى -الذي لا ذكر له في تراثنا الفقهي لأنه استُحدِث بعد تفكيك الخلافة الإسلامية- وأن تكون رئاسة على جميع المسلمين أي إمامة عظمى أو ولاية عامة، ومعناها بتعبير الماوردي: "خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"(10) وعند الجويني: "رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا(11) وعند الإيجي: "خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة"(12) ويلاحظ في هذه التعاريف أنها مرتبطة بوحدة الأمة العامة عندما كان لها حاكم واحد وله ولايات تتبعه، أما بعد انهيار الخلافة فقد تمزَّقت الأمة وصارت دولا عدَّة.

ولا بدَّ من قيد نضعه هنا وهو أنّ الحاكم الذي يُراد إزاحته قد رضيه الناس لدينهم ودنياهم، وكان من حيث الجُملة يحكم بشرع الله تعالى، أما الحاكم الذي ثبت مكره بالأمة ودينها وقيمها فحكمه مناقضٌ للمقصود من حراسة الدين والدنيا، فهذا ليس مقصودًا من البحث هنا؛ إذ المقصود بالتغلب السيطرة بالقوة ممن كان صالحًا للحكم من حيث الجُملة، أو ممن وجد الأمة في حالةٍ من الفوضى وتغلَّب على الأمر، وكان مقصده الحفاظ على الأمة، والجويني إنما بحثَ المسألة من هذا الجانب، ولعل هذا ما يُفهم من أحوال المتغلِّب التي ذكرها الفقهاء ككونه امرأةً أو عبدًا، لكن لم أجد لهم توسعًا في هذه المسألة، وكأنَّ التغلب عندهم من حيث الشروط هو عدم الالتزام بالشروط المطلوبة للوصول إلى الحكم كاشتراطهم الحرية والذكورة، فإذا ما اختلَّ شرط وأخذ الإمامة عنوة فهو متغلبٌّ من هذه الحيثية، يقول ابن عابدين: "والمراد بالمتغلب من فُقدت فيه شروط الإمامة وإن رضيه القوم"(13) أما الغاية -وهي حراسة الدين والدنيا- فهي متحققة فيه أو هي من مقاصده الدافعة للحكم على أقل تقدير، وهذه الغاية نجدها صريحة عند الخطيب الشربيني وهو يشرح كلام النووي بأن من أشكال تولي الحكم "استيلاء شخص -متغلبٍ على الإمامة جامعٍ الشروطَ المعتبرة في الإمامة- على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين"(14) فينبغي التَّنبُّه لهذا، فالغاية كما صرَّحُوا بها هي المصلحة العامة بظنِّ المتغلب، والأصل في المتغلب أنَّ الشروط متحققة فيه إلا شرط البيعة.

يتبع...

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد الثامن

(1) مقاييس اللغة: ابن فارس، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1979م، 4/388.

(2) مغني المحتاج: 5/423.

(3) تفسير الماتريدي، تأويلات أهل السنة، محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي، تح: مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م، 4/ 238. 

(4) زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تح: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي–بيروت، الطبعة الأولى 1422هـ، 1/ 512.

(5) درر الحكام شرح غرر الأحكام، محمد بن فرامرز بن علي الشهير بمنلا خسرو، دار إحياء الكتب العربية، ص221.

(6) تفسير فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار الفكر، بيروت، 4/8.

(7) محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2003م.

(8) غياث الأمم في التياث الظلم، عبد الملك الجويني أبو المعالي ركن الدين، تح: عبد العظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية، 1401هـ، ص326.

(9) انظر في هذه الشروط: الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، ص82، الأحكام السلطانية للماوردي، دار الحديث، القاهرة، ص19، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، 5/ 422، أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، دار الكتاب الإسلامي، 4/ 108، الأشباه والنظائر لابن نجيم، وضع حواشيه وخرج أحاديثه: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت–لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ 1999م، ص325.

(10) الأحكام السلطانية، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، دار الحديث - القاهرة، ص15. 

(11) غياث الأمم في التياث الظلم، ص22. 

(12) المواقف، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، دار الجيل– بيروت، الطبعة الأولى، 1997، تح: عبد الرحمن عميرة، 3/ 574.

(13) الدر المختار وحاشية ابن عابدين، دار الفكر- بيروت، الطبعة الثانية، 1412هـ - 1992م، 2/ 139.

(14)مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، 5/423.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين