فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (14)

والصلاة هي العبادة الأولى في كل دين، وقد كانت الشغلَ الشاغلَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جعلها شارة التقوى، ومظهر الخضوع والتودُّد، وشعار الولاء المطلق لله رب العالمين.

ولا صلاة مع فساد المعرفة، أو رفض الانقياد لله تعالى، فتصوُّر الألوهية شركة كفر، والتمرُّد على شرائع الله سبحانه كفر.

وتوجد معابد لشتى الأديان، بيد أنَّ الإسلام جعل العبادة ارتباطاً بإله واحد، واستمداداً من إله واحد، واحتكاماً إلى إله واحد، وعودة ـ في النهاية ـ إلى هذا الإله الواحد.

والنبي العربي المحمد أفضل من عرَّف الخلق بهذا الإله الواحد، وحبَّبهم فيه، وأشعرهم بأنَّ ربَّهم أرحم بهم من الوالد والوالدة، وأعطف عليهم من كل صديق.

وقد بيَّنا في مواضع أخرى أنَّ منهاج الإسلام في التربية يجمع بين صفات الجلال وصفات الجمال، وما يستغني البشر عن هذا الجمع، فهناك فراعنة تغريهم السلطة بالبغي، وهناك فقراء يعوزهم الدعم، أو مخطئون يلتمسون الهدى والمتاب.

في هؤلاء وأولئك تقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَطۡشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ١٢ إِنَّهُۥ هُوَ يُبۡدِئُ وَيُعِيدُ١٣ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلۡوَدُودُ١٤ ذُو ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡمَجِيدُ١٥﴾ [البروج: 12-15].

وما يحبِّب في الله تعالى وما يؤسس مشاعرَ الحبِّ في الأفئدة فيض غامر في رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا نعرف له نظيراً في أي تراث.

إذا اعترضتك مشكلة، ولم تدرِ كيف تتصرَّف بإزائها، فالجأ إلى ربِّك تستفتيه، وسله أن يوجِّهك إلى الأفضل، إنه منك قريب فلماذا تتركه؟.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: (إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به) ويسمِّي حاجتَه.

استغربتُ من بعض أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يقولون مُتهكِّمين: إنَّ رب محمد جبَّار مُتكبِّر!. قلتُ: ليكن! هل يكسر جبابرة الأرض إلا جبَّار السماء، وهل يمحو كبرياءهم إلا الكبير المتعال؟.

إن إنقاذ الدنيا من أولئك المدمِّرين رحمة مهداة.

ومع ذلك فإنَّ مؤدب الطغاة يقول للمنكسرين: أنا معكم جابر، ويقول للمستهدين: أنا لكم مرشد، ويقول لطلاب خيره: اسألوا الله من فضله إنَّ الله كان بكل شيء عليماً.

إذا كانت لك حاجة فتعاذ بها إلى ربك، إنه لن يتعب في قضائها: إنما أمره إذا أراد شيئا إنَّ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].

عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من كانت له حاجة إلى الله تعالى، أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ، وليحسن الوضوء، ثم ليصلِّ ركعتين، ثم ليثني على الله عزَّ وجل، وليصلِّ على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم. سبحان الله رب العرش العظيم. الحمد لله رب العالمين. أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعصمة من كل ذنب، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين).

وتنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار على طولها وقصرها، ويعود الناس إلى ربهم بعد ما أمضوا فترة الامتحان على ظهر الأرض ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ [الأعراف: 29-30]

أصبحت الدنيا ذكريات.. وها هم أولاء بنو آدم يضعون أقدامهم على عتبات الآخرة. 

ويموت مسلم في المدينة المنورة، ويقف النبيُّ الكريم مصلياً على جنازته، ويقدمه إلى ربه قائلاً: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار).

قال راوي الحديث: (لقد تمنيت أن أكون ذلك الميت الذي ظفر بهذه الدعوات المباركات).

واختار الشافعي رحمه الله تعالى من أدعية الرسول الكريم هذا الدعاء: (اللهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبيها وأحبائه فيها إلى ظلمة القبر، وما هو لاقيه. كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأنَّ محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به. اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك، شفعاء له. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانِه، وإن كان مُسيئاً فتجاوز عنه، وآتِه برحمتك رضاك، وقِه فتنةَ القبرِ وعذابَه، وافسحْ له في قبره، وجافِ الأرض عن جنبيه، ولقِّه برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جَنَّتك يا أرحم الراحمين).

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين