فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (13)

لقد رمقت عدداً من كبار القادة فوجدتُهم يتناولون مقادير كبيرة من المنبِّهات والمقويَّات، ويستهلكون مقادير أخرى من المآكل والمشارب، على حين رأيت في سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه يحتاج إلى الطعام، فيؤتى له بخَلٍّ- إذ لا يوجد غيره- فيغمس فيه اللقيمات المتاحة، وهو راضٍ يقول: (نِعْمَ الإدام الخل)، أو لعله لا يجد شيئاً فينوي الصيام إلى الغروب.

أيُّ جسد يتحمَّل مع هذا الإقلال أعباء الغزوات التي قصمت الوثنيَّة، وأعباء التربية التي أطلعت من الجزيرة القاحلة رجالاً أضاءوا العالمين.

إنَّ الإمدادات الروحية الهابطة من السماء هي من وراء هذه الأعصاب الحديدية: ذكره لله، ودعاؤه لله، وتفويضه لله.

جاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قيل للزهري - أحد رواة الحديث -: كيف ينفث؟ قال: (ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه).

لقد ظلَّ كذلك طول عمره، ففي رواية أخرى: أنَّ النبيَّ كان ينفث على نفسه في المرض الذي توفي فيه بالمعوِّذات، قالت عائشة رضي الله عنها: (فلما تفل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها) تعني - رضي الله عنها - أنها تمسح جسده بيده هو، التماس بركتها.

ذاك طبيبه الخاص في دنيا الناس! إذا كان للرؤساء أطباء خاصون بهم.

وكذلك كان يغالبُ الأسقام، حتى استراح مع الرفيق الأعلى.

إنَّ تعبيرنا هنا بالجانب الغيبي قد يصحُّ بالنسبة إلى جمهرة الناس، فإنَّ ظلال الأشياء لا تغادر بصائرنا، ورغائبنا الخاصَّة قلَّما تنفك عنا، مع ما يخالط ذلك كله من يقين وإخلاص؛ لكن الأمر بالنسبة إلى الأنبياء غير ما نتصوَّر، فهم في شهود غالب يجعل إحساسهم بربِّ الأشياء أسبق من حِسِّهم بالأشياء نفسها.

ونبي الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم كانت روحانيَّته عارمة، والإشراق الإلهي على قلبه لا يلحقه أفول، وكان جهده أن يرفع مستوى من حوله، وأن يغلب مَادِّيَّتَهم بصفائه وسنائه.

وذلك يجعلنا نلقي نظرة عجلى على أركان الإسلام لنرى كيف كانت معارج ارتقاء، ومصادر تذكر دائم لله تعالى، ولنرى كيف انفرد هو بأدائها على نحو لا يُدانى ولا يُرام!.

الأركان العامة:

كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الصلاة قال (الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بُكرة وأصيلاً، وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مُسلماً وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربَّ العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

(اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك. ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت).

(لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك).

ومعنى الشر ليس إليك: أنه لا يبدأ به عبداً، وإنما يجلبه العباد على أنفسهم بسوء عملهم: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].

وربما قال صلى الله عليه وآله وسلم في مفتتح صلاته: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد).

وربما قال: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك).

وربما قال في ركوعه إذا ركع: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومُخِّي، وعظمي، وعصبي).

وربما قال بعد الرفع من الركوع: (ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ: لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: لا ينفع أحداً ما قسمت له من دنيا عريضة، إنما ينفعه ما يلقاك به من تقوى وأدب.

وربما قال في سجوده: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء، والعظمة) أو قال: (اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، سبحانك! لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).

إنني عندما أتلو هذه العبارات المضيئة أشعر كأنَّ الأنبياء كلهم، والملأ الأعلى معهم، يقفون وراء محمد صلى الله عليه وآله وسلم صفوفاً صفوفاً، وهو يدعو بما أفاض الله على قلبه ولسانه، وهم يؤمِّنون ويؤكِّدون!.

وقد أسأل: هل هناك عنصر من عناصر العبوديَّة، أو مَعْلم من معالم الرغبة والرهبة فات محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يناجي ربَّه؟.

هل أدَّى أحدٌ من الملائكة المقرَّبين، أو الرسل المكرَّمين تحيةً لربِّ العالمين أزكى من هذه التحية، أو مَدْحاً أسنى من هذا المدح، أو اعتذاراً على تقصير أرق من هذا الاعتذار؟!.

والتقصير هنا يَرجع إلى واحدٍ من أمْرين: أنَّ طاقة البشر محدودة والواجب كبير، أو أنَّ عظمة الربِّ فوق ما يَعي الواعون، فالألفاظ تفنى، وحقُّ الله جلَّ وعلا أكبر مما يقولون.

على أنَّه في ميدان التعبُّد لله تعالى، بحسن المعرفة وإسداء الشكر، نرى إنساناً فذاً، سبق سبقاً بعيداً، تحبو البشريَّة وراءه، وهي مبهورة الأنفاس، وفي مسامعها أصداء تسبيح وتحميد تتجدَّد ولا تتبدَّد. من هذا العابد المستغرق الأوَّاه المنيب؟ إنَّه محمد بن عبد الله. 

ونهبط من هذا الأفق لنسمع فحيح بعض الأفَّاكين يقول: ليس محمد نبياً!. ومن قبل ذلك استمعنا إلى سخفهم وهم يقولون: لله ولد، وهو معه إله.

ويْحَكم!. إنَّه لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله.

إنَّ الصلاة هي الركن الثاني في الإسلام، ولا مجال هنا لشرح أقوالها وأفعالها، وما سقناه من أدعية وأذكار ليس من قبيل الواجب، فالصلاة تتم بقراءات وأذكار دون ذلك، وإنما أردنا أن نشير إلى فنَّ الذكر عند كبير العابدين صلى الله عليه وآله وسلم.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين