فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (12)

هل الدعاء من الأسباب العاديَّة؟

نستطيع أن نقول: نعم إذا تصوَّرنا القضية ليست أكثر من استعانة عاجز بقادر.

إنَّ الولد عندما يقول لأبيه: هات لي كذا مما يؤمِّل ويحب، فهو يستعمل السبب المتاح له، أي الوالد المحب، وإن كان بوسائله الخاصة لا يقدر.

والأنبياء عندما لجأوا إلى الله تعالى يدفعون به أذى الكافرين كان الدعاء سببهم العادي: ﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَٱزۡدُجِرَ٩ فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَغۡلُوبٞ فَٱنتَصِرۡ١٠ فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ١١ وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ١٢﴾[القمر:9-12].

وليس كلامنا الآن في هذا المنحى، وإنما نقصد ما رُوي في الصحاح من أذكار ورقى يردِّدها المؤمنون في أوقات مُعينة، أو في أوجاع وأحوال يضيقون بها، ويستعينون بالله لدفعها.

ثبت في الصحاح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ مضجعه - استعدَّ للنوم - نفث في يديه، وقرأ المعوذتين ومسح بهما جسده.

وفي رواية كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفَّيْهِ، ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق: 1] و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1] ثم مسحَ بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.

قال رجال اللغة: النفث نفخ لطيف بلا ريق.

إنَّ هذه السور الثلاث تحتوي على توحيد الله تعالى، وعلى تمام تنزيهه سبحانه، ثم تدفع بالمرء في أحضان العناية العليا مُتحصِّناً من جميع الشرور المادية والمعنوية التي تزعجه.

وهناك رقى كثيرة سنشير إلى بعضها؛ يستشفي بها المسلم من الأوجاع التي تنتابه، واتصالها بعالم الغيبيات واضح، إذ لا يدري العقل سرَّ النفث ولا سرَّ العدد الوارد.

وأجدني هنا مسوقاً إلى ذكر حقائق طبيَّة مقرَّرة تقفنا هي الأخرى على حافة عالم الغيب متحيرين؛ إنَّ الجراثيم التي تحمل العِلَل قد تهاجم بعض الأجسام بضراوة، على حين تفقد شراستها حين تتصل بأجسام أخرى، فما تمسها بأذى يذكر!.

وأحيانا تشتدُّ وطأة الجراثيم الهاجمة، ومع ذلك تستقبلها من الجسم مناعة غريبة، وربما حمل الإنسان أسبابَ المرض دون أن يعتلَّ به، أو يتألم منه... ما سرُّ ذلك؟

من الذي أفقد الجراثيم قدرتها على الإصابة ابتداء وانتهاء؟ نحن المؤمنين نقول: الله. ونسأل الشاكّين: مَنْ غيره؟ إنَّ عالم الحس بالنسبة إلى عالم الغيب ضئيل محدود، والتحكم في أسباب المرض والعافية أقلُّه في أيدينا، وأكثره بعيد عن مُتناولنا.

والتداوي حق، وقد وصفت السُنَّة عقاقير وأغذية وأشربة شتى للنجاة من الأمراض، ولكن يبقى قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، هذا السبب الخفي الذي يجعل الجراثيم تستأنس حيناً، وتفترس حيناً آخر، الذي يجعل العدوى تنتقل من الهباء، ولا تنتقل مع طول المخالطة والالتصاق.

من أجل ذلك يبقى دعاء الرب الأعلى، واهب الأسباب قدرتها على العمل إذا شاء، وتاركها صفراً لا أثر لها إذا شاء!.

وعلى ضوء هذا البيان نفهم المرويات التي نثبتها هنا واثقين من صدق نتائجها.

عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنَّه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعاً يجدُه في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله- ثلاثاً- وقل- سبع مرات- أعوذ بعزَّة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر).

وعن أنس رضي الله عنه أنه قال لثابت رحمه الله: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: بلى؛ قال: (اللهم ربَّ الناس، مُذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما)!.

وهذه قصة طريفة رواها البخاري ونحب أن نثبتها ونتدبَّرها. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (انطلق نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يُضيِّفُوهم، فلُدغ سيدُ ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء. فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إنَّ سيدَنا لُدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فهل عند أحد منكم شيء؟ قال بعضهم: إني والله لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلاً. فصالحوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلقَ يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين...) - يعني ينفث بها على اللديغ- فكأنما نشط من عِقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبة [الألم والعلة]، فأوفوهم جُعْلهم الذي صالحوهم عليه.

وقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فنذكر له الذي كان، فننظر الذي يأمرنا. فقدموا على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فذكروا له، فقال للصحابي الذي رقى المريض بأم الكتاب: (وما يدريك أنها رقية)؟ ثم قال: (قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً). وضحك النبيُّ لما كان.

وفي رواية مُشابهة قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم للراقي: (كل فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق).

لقد استوقفتني هذه القصة من وجوه عديدة؛ فإنَّ فاتحة الكتاب سورة عظيمة القدر بما حوت من تمجيد لله سبحانه ودعاء، وكان ظني أنها تنفع قارئها وحدَه، أما أن تنفع المقروء له فذاك ما أثبتته القصة هنا.

والقصة تحكي أنَّ هؤلاء النفر من صحابة الرسول نزلوا بقوم لئام، رفضوا أن يقبلوهم ضيوفاً، وهذه خِسَّة منكورة، ترى هل فعلوا ذلك بُخلا أم فعلوا ذلك كرهاً للإسلام، والذين دخلوا فيه؟ إنني أرجح السبب الأخير.

وكان من قدر الله أنَّ أفعى أو عقرباً لدغت كبير القوم وتركته لا قرار له ولا يجدي معه شيء، مما اضطرَّ أهله أن يلجأوا للصحابة طالبين نجدة!.

والغريب أنَّ الذي داوى المريض بالفاتحة ينفثُ بها على المصاب هو الذي توقف في الانتفاع من المكافأة التي اشترطها، وشكَّ في جواز الأكل منها، وهو تصرف يدل على أنَّ الراقي كان يجمع بين صدق الإيمان وشدة الورع.

وهنا موطن العبرة: فليس كل قارئ يشفي، ولا قراءة تداوي، ولكن لله عباداً إذا أرادوا أراد، وإذا استنزلوا الفضل نزل.

وقد فرح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالقِصَّة كلها، وأحبَّ إرضاء الراقي، فشاركهم في الطعام من المكافأة المبذولة.

ولم لا يفرح بأثر الوحي النازل عليه إذا صحبه اليقين الحار والعمل البار؟.

إنَّ الجانب الغيبي في هذه المرويات ما يمكن إنكاره، وكذلك ما يمكن تعميمه بين أهل السبق والتقصير، أو بين من لهم بالله علاقة وثيقة ومن يمتون إليه بأوهى الصلات.

وأغلب الصالحين يستمدُّ صِحَّته الجسديَّة، ومقاومته للأدواء والأوجاع من هذا النبع الجيَّاش في فؤاده يمدُّه بعفوِ الله سبحانه، وعافيته.

ونعود إلى إمام الصالحين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم لننقل عنه أنه كان يغالب المتاعب العارضة باللجوء إلى الله تعالى والاستعاذة به.

قد تقول: إنَّنا عرفنا عنه سلامة البدن وقوته، وأنه أوتي من ذلك ما لم يؤتَ غيرُه، فمن أين تجيئه هذه الأسقام الملجئة إلى التعوُّذ والضراعة؟.

ونقول: لا ريب إنَّ خاتم المرسلين أوتي بسطة في العلم والجسم تُعينه على أضخم رسالةٍ حملها بشر.

لكن سهر الليل في التهجُّد والتلاوة، وسبح النهار في العبادة والكدح، والجهاد المتصل، وحمل آلام الخلق، واطِّراد هذه المعاناة ربع قرن وهي تربو، ولا تخف. مع تخفف مُستغرب من الطعام والشراب، هذا كله أعيا الجسد الجلد، وأرهقه.

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين