عَظَمةُ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مجمع العَظَمات (3)

الدعامة الثالثة

وأما الدعامة الثالثة من دعائم العظمة، وهي القدرة التنفيذيَّة، أي مدى كفاية العظيم في تحقيق منهاجه الإصلاحي، فالمقصود بها القوَّة على نشر الدعوة الإصلاحيَّة وتطبيقها في المحيط المحارب لها، وإدخالها إلى القلوب المتحجِّرة والأدمغة الصمَّاء حتى تلين وتقبلها، مع تحمُّل ما في سبيل ذلك من أعباء ومصاعب وأهوال ومتاعب.

فالواقع أن قدرة التنفيذ وقوته لدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُنقطعة النظير، ولا يعرف الإنسان مداها إلا بقدر ما يعرف من حال المحيط الذي قام فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته.

فقد لقي عليه السلام من أذى قومه وافترائهم عليه وسخريتهم به ما لا يصبر عليه أحد، وتآمروا بقتله مرَّات فأنجاه الله تعالى، واستمرَّ حتى يئس منهم. ولكن هذا اليأس لم يَصْرِفْه عن دعوته كما ينصرف اليائسون ويقعدون، بل هاجر إلى قوم سواهم وأسَّس لدعوته قوة، ثم كرَّ عليهم بالحق قوياً بعد أن صدّوه عن الحق ضعيفاً، وقلب جزيرة العرب من بؤرة ضلال وجحيم فساد إلى مركز إشراق نفذت أشعة أنواره إلى الخافقين، وعمَّت العالم.

وسنشير فيما يلي إلى أهم ما تمَّ على يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تنفيذ وإنجاز، قلباً وهدماً، وتأسيساً وبناءً، وتصحيحاً وتغييراً في سبيل إقامة الحياة الإنسانية على الطريق الصحيح السوي الذي يسود فيه الأمن، ويتحقق العدل، وينمو العقل وتنتعش مكارم الأخلاق: 

(أ) كان المجتمعُ العربي جاهلياً تُعبد فيه الأصنام عبادة عمياء، وتعشِّش في عقول أهله الخرافات. فهدم بدعوة الإسلام الذي جاء به تلك الأصنام جمیعاً وطهَّر البيئة العربيَّة منها كما طهَّر عقول العرب ونفوسهم من عبادتها ومن سائر الخرافات، وأقام مكانها عقيدة التوحيد على أساسين: 

الأول) الإيمان بالله تعالى خالقِ الكون، الأحد الصمد المتَّصف بالكمالات المطلقة والعلم المحيط بعوالم الغيب والشهادة، لم يَلد ولم يُولد، ولا شريك له، ولا مَعْبودَ سواه، وليس كمثله شيء، وهو على كل شيء قدير، والاستدلال على كل ذلك بالدليل العقلي الذي يدور عليه الحوار القرآني. 

الثاني) الإيمان باليوم الآخر، يوم الحساب والثواب والعقاب على الأعمال في الحياة الدنيا من خير وشر، والإيمان بسائر كتب الله المنزَّلة قبلاً، وبرسله السابقين.

وكان هذا الانقلاب الجذري الذي نسف الشرك والوثنيَّة والخرافات نسفاً، وحرَّر العقل العربي، وانتقل في أقصر وقت من المجتمع العربي إلى سائر الأقطار والأمم أساساً للحضارة الإسلامية التي غطَّت وجه المعمورة كُلِّها بآثارها الخالدة أو بظلالها. 

(ب) تكوين مجتمع إسلامي جديد بمفاهيم ومَقاییس اجتماعيَّة جديدة، العبرة والقيمة فيه وفي قياداته للأهلية والكفاية والأمانة والتقوى، لا للعصبية القبلية والأنساب (كما كان في المجتمع الجاهلي السابق) يترابط أبناؤه ويتعاطفون بالإخاء الإسلامي ثم الإنساني، وهم فيه جميعاً كأسنان المشط أمام الحق والنظام.

فهذا زید بن حارثة رضي الله عنه - وهو مولى كان مملوكا فأعتق - يولِّيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قيادة الجيش في غزوة مؤتة إلى الروم في بلاد الشام، وكانت من أعظم الغزوات خطراً، وبعد شُقَّة، وعظم مشَقَّة، وكان فيها تحت إمرة زيد جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله من ذؤابة قريش وذروتها نسباً وشرفاً ومركزاً اجتماعياً، وفيها أيضا خالد بن الوليد المخزومي، وناهيك بخالد من هو!! فتولية عبد معتق إمارة جيش خطير فيه أمثال هؤلاء من سادات العرب يعتبر تغييراً في التقاليد الجاهلية يتجاوز حدود الخيال.

ثم هذا أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما بعد ذلك يوليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قيادة جيش الغزوة الثانية إلى مؤتة، وفي الجيش تحت إمرته من كبار الصحابة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو شاب حدث السن.

ثم لما حال دون خروج الجيش وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان من أول أعمال خليفته الأول أبي بكر رضي الله عنه بعث جيش أسامة، وخرج أبو بكر الخليفة في وداع الجيش وقائده الشاب إلى ضواحي المدينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه يمشي راجلاً في ركاب القائد الشاب يودعه ويوصیه ويأبى عليه أن يترجَّل ويماشیه.

وهذه زينب بنت عمَّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أعالي قريش نسباً وشرفاً يزوجها من زید بن حارثة مولاه المعتق، وكان كل ذلك وأمثاله أبعد من مُستحيل في العهد الجاهلي.

وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد دخل تحت الاسترقاق في البيئة العربية وامتلكه أحد يهود المدينة حتى يحرِّر نفسه بالمكاتبة على مبلغ من المال أداه لسيده اليهودي بمعاونة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فیولیه عمر رضي الله عنه في خلافته الإمارة على مدائن کسری.

وكل هذا السلوك الذي قلب مفاهيم العرب وتقاليدهم في العنصرية والعصبية القبلية والطبقية إنما كان تطبيقاً عملياً لقول القرآن العظيم: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات: 13] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّه من استعمل رجلا من عصابة (أي ولاه عملاً على قوم) وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)، وواضح إنَّ المقصود ما إذا كان الذي ولاه يعلم بوجود من هو أصلح منه. 

وقال عليه السلام أيضاً: (ما من عبد يسترعيه الله رعيَّة يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة) [ریاض الصالحين للنووي - الحديث / 452]. وأيُّ غش للرعية أعظم من تولية أحد عملاً من المصالح العامة مع العلم بأنَّ هناك من هو خير منه وأصلح لهذا العمل؟ 

(ج) ومن التغييرات العظيمة التي حوَّل بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المجتمع الجاهلي عن تقاليده السيئة الراسخة تغييره وضع المرأة ومركزها الاجتماعي فيه. فقد كانت المرأة قبل الإسلام، إلا ما ندر، أشبه بالمتاع: ينتفع به وليس له حقوق. ولا يُعرف قبل الإسلام مجتمع أو نظام صان المرأة وضمن لها حقوقها الإنسانيَّة وحُرِّيتها الحقوقية، وركَّز وضعها الصحيح في المجتمع تركيزاً تشريعياً وعملياً، وحفظ کرامتها أمَّا وزوجة وبنتاً، مع مُراعاة حقيقة ما تقتضيه الفروق الطبيعيَّة بينها وبين الرجل في توزيع الوظائف، كما فعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نظام الإسلام. وكان تحقیق هذا المركز القانوني والاجتماعي للمرأة في تلك الظروف وملابساتها وتقاليدها العمياء، وفي فترة قصيرة أشبه بمعجزة.! 

(د) كان المجتمع الجاهلي فوضى بين القبائل فكوَّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم دولة إسلامية على أُسس جديدة كل الجدة، لها خزينتها وأجهزتها المتنوعة من إداريَّة واقتصاديَّة وماليَّة وسياسيَّة وعسكريَّة وسواها، يضبطها جميعاً نظام شرعي متكامل مرن يتمشى مع اختلاف الظروف الزمانيَّة والمكانيَّة، ولا ينبو ولا يَضيق عن حاجة. 

(هـ) أشاد الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم بشأن العلم أيَّما إشادة، وزاد علم الشريعة تخصيصاً بالتنويه به والتوجيه إليه لأنَّه النبراس الذي يضيء طريق الحياة الصحيحة، والنظام والسلوك الإنساني.

ثم رفع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكانة العلماء، وحضَّ على نشر العلم بالتعليم والتعلم بدءاً من القراءة والكتابة حتى التفقُّه والرسوخ، وأعلن تحريم كتمان العلم، وهدَّد بالعقوبة على الامتناع عن التعلم والتعليم.

وقد كان لهذه الموجة الإصلاحية ومدِّها أثر خالد في التاريخ اللاحق أنارَ وجهَ الأرض بالعلوم والمعارف الإسلامية.

هذه لمحة إجماليَّة عن جوانب مُهمَّة من القدرة التنفيذيَّة في تحقيق المنهاج الإصلاحي الذي أتى به ودعا إليه وقام على تنفيذه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم نعمد فيه إلى الاستقصاء، وإنما أردنا إعطاء صورة ذات ملامح تكفي للتقدير والحكم في مدى العظمة من هذه الناحية.

وكم من دعوة حق خَيِّرة نيرة دُفنت في مَهْدها لأنَّ داعيتها لم يكن مؤهَّلاً بالقدرة والكفاية لتحقيق ما يدعو إليه فعلاً، وتنفيذ منهاجه الإصلاحي.

هذا، ومن يريد أن يقدِّر عظمةَ النبي عليه السلام من هذه الناحية التنفيذيَّة حقَّ قدرها فلينظر فيما يلاقيه المُصلحون في كل عصر ومصر من بني قومهم الذين يجمعهم وإياهم دین واحد وأسس متفق عليها. فلا يكاد يقوم مصلح، ولو كان حاكماً، بتنفيذ خطة إصلاح حتى تصطدم بالمطامع والمنافع الفردية التي تتعارض مع منهاج الإصلاح فتقضي عليه في مهده.

هذا ما يُلاقيه المصلحون في نواحٍ فرعيَّة بسيطة من عوائقِ التنفيذ القاهرة، فما بالك بتنفيذ شرعٍ جديد يَقْلب الأوضاع والعقائدَ الوثنيَّة والعادات والأخلاق والتقاليد المستحكمة في جميع نواحي الحياة العقليَّة والعمليَّة رأساً على عقب في صميم الجاهلية الجهلاء، وبين الزعامات الفاسدة، حتى أنشأ في نفوس من كانوا يئدون البنات ويعبدون ما يصنعون، طهراً كطهر الملائكة وهِمَّة في إحیاء الحق ووأد الباطل کانت كالغيث رحمة ونتاجاً.

[للمقالة تتمة في الجزء التالي] 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400هـ، الجزء الخامس ص225-267 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين