كيف تكون محبوباً!(7)

 نُكمل معًا مسيرة الكشف عن زمرة استثنائية تعيش بيننا؛ أناسٌ أعمالهم في الأرض معروفة، وسرُرُهم في الجنانِ مصفوفة.. محبّون لربّهم، عاملون مخلصون، في الآيات والأحاديث موصوفون، أولئك عند الله تعالى هم المحبوبون..

 سيبقى الفؤادُ من نهرِ حبّ يوقِظُ القلبَ من عميقِ السُّباتِ

فاستمع يا زمانُ قولَ محبّ سوف يتلو أنشودةً للرواةِ

يا خلايا القلب يا كلَّ نبضٍ هاتِ ما عندكِ من الحبِّ هاتِ

أنتَ يا إلهنا أهلُ الثناء فامنن بعبيرٍ من الثناءِ مُواتي

فمحبتُّنا وامتداحُنا ليس إلاّ ومضةٌ منكَ يا عظيم الهباتِ

يا مرادنا هذه ترانيم حبّ من فيوضِ المشاعرِ الخاشعاتِ

 

أَحَبُّوه، فبادرهم بالحب، وجازاهم بالقرب..

نعم.. ﴿اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ (23)﴾ [الحشر] ، ﴿اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ(24)﴾ [الحشر]، الله الذي ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (24)﴾ [الحشر].. يُحبُّهم.. يُحبُّهم..!!

فما الذي صنعوه؟ ما الذي قدّموه؟ هل أظهروه أمام الناسِ، وعرضوه؟ أم أخفوه، وفي سراديبِ الكتمانِ دسّوه؟ أيُّ سرّ فعلوه حتى أحبّهم، أولئك الذين أحبّوه؟

يروي أحدُ الدعاة أنَّ رجلًا من زماننا كان يتردّد إلى دور الأيتام بعد ظهر كلّ يوم أربعاء، ليقضي ساعةً، يرفّه خلالها عن الصّغار البائسين، يحكي لهم القصص، ويلاعبهم، ويمازحهم. ولما سُئل مديرُ الميتم عن هذا الرجل، أجاب بأنه لا يعرف عنه شيئًا، ولا يعرف من هو، وأنّهم كلّما سألوه، أجاب: ليس مهمًا أن تعرفوني، فلو أخبرتكم، لأفسدتم عليَّ لذَتي وسكوني!

 أتعلمون عن أيّ لذّة يتحدّث؟ أتدرون ما الذي كانوا سيفسدونه لو أنّهم عرفوه؟ مع أنهم أرادوا أن يشكروه!! أتعرفون علام كان حريصًا ذلك الرجل التقي الخفي؟!

أن تفعلوا خيرًا في العلن، فإن للعطاء لذّة محسوسةٌ، ومحبّة من الله ملموسة، لكن أن يكون عطاؤكم محجوبًا خلف حصون السّتر والخفاء، فإنّه حتمًا أعذبُ وأصفى عطاء..

 إنّهم الأتقياء الأخفياء، أحبّهم ربُّ الأرض والسماء؛ أخفوا برَّهم، ترفّعًا عن ذكر الخلق، فأثبت الله حُبَّهم، من خلال حديث رواه الذي لا ينطق إلا بالحق..

ففي صحيح مسلمٍ من حديث عامر بن سعد قال: "كان سعدُ بن أبي وقاص في إبلِهِ، فجاءه ابنهُ عمر، فلما رآهُ سعدٌ، قال: أعوذُ باللهِ من شرّ هذا الراكب، فنزل عمر، وقال لوالده: أنزلتَ في إبلك وغنمكَ، وتركتَ الناسَ يتنازعون المُلْكَ بينهم؟ فضربَ سعدٌ في صدره، فقال: أُسكت، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ الله يحبُّ العبد التقيّ الغنيّ الخفي".

إنّ الله يحبُّ العبدَ التقيَّ الغنيَّ الخفي.. التقي الذي يفعل المأمورات، ويبتعد عن المحظورات، والغنيّ الذي يستغني عن الناس، ويقنع بما أعطاه ربُّ الناس، والخفي الذي لا يتحرى تعريف وإشهار كل ما يقوم به مع الناس..

لكنَّ المعضلة اليوم تتمثّل في السؤال الآتي: كيف نكون من الأخفياء، في زمنِ الشهرةِ والأضواء؟ وهل يمكن لأحدنا أن يكون بالخير حفيًا، وعن أعين الناس خفيًا؟ كيف يُتقن الخفاء، من على صفحته آلاف المتابعين والأصدقاء؟ بل كيف يضبط نفسه، من يملك الكاميرات في كل الأوقات، فيعمل الصالحات، ولا يُخبر روّادُ صفحتِهِ عما قدّم من معروفٍ، ويجاهد رغبته في سماع الإطراء؟

  إنّه "فَنُّ التعتيم على صنائع المعروف"، وعدم استغلال الأحداث والظروف!

السّرُ في حياةِ الأحبّاء الأخفياء، سمّاه أحدُ العلماء (التوحيد القلبي): بأن تكونَ الأفعال والحركات والأقوال والكلمات كلّها للمحبوب، لا للبوستات والإعجابات والتعليقات!

والميزان في ذلك أن لا يُظهر أحدنا العمل الصالح، إلا ما ظهر منه بين الناس من الخيرية، وألّا يُطلب الجاه والشهرة، إلا ما أتى لكفاءة وأهلية، وأن يُكتفى باطّلاع الخالق دون اطلاع المخلوقين، ويُحتفى بحمد الله وحده، دون الاحتفاء بحمد المحيطين..

 يقول أحد الصالحين: "يكفيك أن تكون سريرتُك، أن لا تسرِقَ السرورَ من قلب آخذ".. ما أعظمه من شعار، نرفعه قلبيًا، قبل أن تُرفع إلى الله أعمال الليل والنهار..

أن لا تسرق سرور مسكين مستفيد منكَ بالعَرْضِ والمتاجرة، ولا تعكّر فرحة فقير بالتصوير والمفاخرة..

كن بالآخذين عطوفاً حفيًا، وعن أنظار الناس متواريًا خفيًا.. لتصير عند ربّك محبوبًا تقيًّا..

 #كيف_تكون_محبوباً

*سلسلة مقالات أكتبها، راجية أن تكون علماً نافعاً، وصدقة جارية عن روح أخي محمد رحمه الله تعالى، سائلة ربي أن يكتب لي وله ثوابها، آملة منكم الدعاء له، ثم نشرها لتعمّ الاستفادة منها، لعل الله تعالى يجعلنا وإياه من المحبوبين في الدنيا والآخرة. 

الحلقة السابقة هــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين