كيف تكون محبوباً! (6)

في موقف ورد على لسان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، يقول فيه:

(هل يُحبني الله؟ راودني هذا السؤال وكثيرًا ما يراودنا، فتذكرتُّ أن محبّة الله تأتي لأسباب وأوصاف ذكرها في كتابه، قلّبتُها في ذاكرتي، لأعرِض نفسي عليها، علّي أجِدُ لسؤالي جوابًا شافياً. فوجدتُ أنه يحبُّ المتّقين، ولا أجرؤ أن أحسبَ نفسي منهم، ووجدتُ أنه يحبُّ الصابرين، فتذكرتُ قِلّة صبري، وتذكّرتُ أنه يحبُّ المجاهدين، الذين يقاتلون في سبيله صفًا، كأنهم بنيان مرصوص، فتنبّهتُ لكسلي وقلةَ حيلتي، ووجدته يحب المحسنين، وما أبعدني عن هذه!

حينها توقفتُ عن متابعةِ البحث، وخشيتُ ألا أجدَ في نفسي صفةً يحبني الله لأجلها، وتفحصّتُ أعمالي، فإذا أكثرها ممزوجٌ بالفتورِ والشوائب والذنوب.

كدتُ أن أغرق في حزن عميق، وهمّ كبير.. فجأة، خطر لي قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ(222)﴾ [البقرة]، كأنّني للتوّ فهمتُ أنّها لي، ولأمثالي، فأخذت أتمتم: أستغفر الله، وأتوب إليه..أستغفر الله، وأتوب إليه.. أستغفر الله، وأتوب إليه.. لعلّني أدخلُ في زمرة أحبابه).

إنّ من بيننا أصنافٌ يحبّهم رَبُّهم، يُنزِّل عليهم رضوانه، ويمنحهم عطفه وإحسانه، ويكرمهم بصَفْحِه وغفرانه.. فيا لفرحة المحبوبين عند ربهم، ويا لسعادتهم عند لقائه!

محبّةٌ هي غايةُ كلّ مؤمن، وهدفُ كلّ مسلم، وبغيةُ كلِّ عابد.. محبّةٌ يتفاوت الناس فيها، فمن مقلٍّ، ومن مستكثر..

وكلّ واحدٍ منّا يبذل الأسباب، التي يرى أنه سينال بها محبّة الله، ومحبّتُه اليوم نابعةٌ مِن علمِه بطبيعتنا؛ محبة فيها إقرار وإعذار، فيها مصارحة ومسامحة..

محبّته اليوم سببها عودتنا عن مخالفة، ورجوعنا عن خطأٍ، وانتباهنا لزلل..

والعبد التوّاب، هو الذي يعلن بعد كل خطأ معترفاً، نادماً، عازماً، قائلاً:

يا رب إن عظمت ذنوبي فلقد علمتُ بأنّ عفوك أعظمُ

أدعوكَ ربي كما أمرتَ تضرّعًا فإذا رردتَ يدي فمن ذا يرحمُ

إن كان لا يرجوكَ إلا مُحسنٌ فمن الذي يرجو المسيء المجرمُ

ما لي إليكَ وسيلةٌ إلا الرجا وجميلُ عفوك ثم أنّي مسلم

نحبُّه، ونحن في حقّه مقصرون، ويحبّنا، ويعلم أننا خطّاؤون..

نعم، خطّاؤون كلّنا، فلم لا نكونُ خيرَهم، فإن خيرَ الخطائين التوابون، والله تعالى يحبُّ خيرَ الخطّائين، يفتح لهم أبواب التوبة في كل حين، ويفرح لرجوعهم إليه، وإن بلغت الذنوب عنان السماء.

ليس بيننا معصوم من الخطيئة، وما نعرفُ أحدًا بمنأى عن الهفوة، ولا يوجد إنسانٌ منزَّه عن الوقوع في الذنب. ولكن من بيننا أيضاً كثيرون، طال أرقهم، وعَظُم همّهم، تعتصرهم كآبة الذنوب، ويلفُّهم شؤم المعاصي، يتلمّسون نسيم رجاء، ويبحثون عن إشراقةِ أمل، ويتطلعون إلى صبحٍ قريب، يشرق بنور التوبةِ والاستقامة، ليذهب معها اليأس والقنوط، وتنجلي سحائب التعاسة والخوف والتشرّد والضياع.. هذا هو حال القلب، إذا ما اعترته لحظات الضعف والسقوط..

وقد ورد من الأثر، قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث يصف ذلك المشهد: "ما من القلوبِ قلبٌ إلا وله سحابة كسحابةِ القمر، فبينما القمر يضيء، إذ عَلَتْهُ سحابة، فأظلم، فإذ تجلّت عنه، أضاء". إنّ معنى ذلك أنّ سحب المعاصي والذنوب تنكشف بالتوبة والاستغفار، فيعود للقلبِ إشراقه ونوره وضياؤه، فيحبُّه ربُّه..

هذه الحشرجة التي في جوفك، هذا الألم الذي في صدرك، هذا الضيق الذي يعتري مجلسك، هذا الهمّ الذي يقطع نَفَسك..

اترُك الأدوية والمسكنات، واسمع لهذا الإعلان، فقد حان الآن موعد التوبة..

نظّف سجلّك، طهّر سيرتك، نقّي سريرتك، بيّض صحيفتك، فالوقت متاح الآن، وخالقك الذي يحبك يناديك، فلا تؤخّر، ولا تؤجّل، تعالَ، وأعلن قرارك..

قل: يا رب..

قد أتيتُ ذنوبًا أنت تعلمها ولم تكن فاضِحِي فيها بفعل مُسِي

فامنن عليَّ بذكر الصالحين ولا تجعل عليَّ في الدينِ من لَبَسِ

وكن معي طولَ دنيايَ وآخرتي ويوم حشري بما أنزلتَ في عبَسِ

التوبة صفحة بيضاء، صفاء ونقاء، خوفٌ وحياء، دعاءٌ ونداء، خشيةٌ وبكاء..

التوبة رجوع ونزوح، بابها مفتوح، خيرها ممنوح، ما لم تغرغر الروح..

التوبة فضل من الله عظيم، وعطاءٌ جسيم، من خالق رحيم، يُكرِمُنا بمغفرته، ويُغَشّينا بحلمه، ويجلّلنا بستره، ويتطلف ويسمح، وبتوبة عبده يفرح..

إنّها التوبة، باب المحبوبية المشرّع، قد نزل أوانها، وحلّ زمانها.. فاللهم إنّا مقبلون عليك بتوبةٍ نصوح، تشفي القلب والروح، وتداوي كلّ الجروح، اللهم إنّا مذنبون، لكننا تائبون، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له..

ليكن يومنا هذا بداية مولدنا، وانطلاقة موكبنا، واستئناف مسيرِنا، وإشراق صبحنا، وتباشير محبتنا.. إنّنا محبّون مذنبون، ومحبوبون تائبون، لله عائدون، بعفوه فرحون، وبرضوانه فائزون..

#كيف_تكون_محبوباً

*سلسلة مقالات أكتبها، راجية أن تكون علماً نافعاً، وصدقة جارية عن روح أخي محمد رحمه الله تعالى، سائلة ربي أن يكتب لي وله ثوابها، متمنية منكم الدعاء له، ثم نشرها لتعمّ الاستفادة منها، لعل الله يجعلنا وإياه من المحبوبين في الدنيا والآخرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين