القومية ودورها في تفكيك وَحدة الأمة الإسلامية(4)

انعكاس القومية على المجتمع السوري

سوريا كغيرها من الأقاليم العربية تأثرت بدعوات القومية العربية، فظهرت فيها شخصيات عدة تفتتن بالتقدم الغربي وتتبنى الفكر القومي، ولاقت أفكارهم في نظام الدولة رواجًا واسعًا خاصة مع ظهور أحزاب تحمل فكرهم، منها أحزاب شمولية مجرمة قسرت المجتمع على فكرها كان من أبرزها حزب البعث، وامتد تأثير القومية إلى فترة الثورة السورية عام 2011، فكانت أكثر فترة تاريخية مُنيت باستقطابٍ للفكر القومي في سورية ما بعد الانفصال عن مصر عام 1961م، إذ ترسخت القومية أكثر بصفتها نظام دولة، وصيغت في دستور الدولة في عهد حزب البعث، الذي نشأ عام 1947م وتمكن من التسلط على مفاصل الدولة بعد انقلاب الثامن من آذار سنة 1963م.

لقد تأثر المجتمع السوري كثيرًا بسلبيات سيطرة القومية على نظام الدولة، فبرز تأثيرها السلبي بوضوح في مسألتين هما:

أ‌- الدين والقومية ونمط العلاقات الاجتماعية الجديد بين الدولة والشعب. ب- المسألة الكردية.

الدين والقومية:

بنى حزب البعث –بوصفه حزبًا قوميًّا شموليًّا- علاقته مع جماعات المجتمع السوري على أساس الهوية العربية، جاعلًا الدين شيئا سيئًا يعود بالدولة إلى الانقسامية، واتخذ من هذا الفكر ستارًا لإجبار الناس على البعد عن الدين في المواضع التي تتعارض فيها رُؤاه مع مبادئ الدين، وقد حاول من خلال فكرة ضرر الدين على الناس تسويغ النهج العلماني الذي أخذ يفرضه على المجتمع السوري بقوة السلطة والسلاح.

كانت أفكار حزب البعث ناتجة عن تصورات خاطئة عن الإسلام وتقليد أعمى للغرب في مساواتهم الكنيسة الغربية في القرون الوسطى بدين الإسلام المُكَمَّل، وهنا أورد نصًّا لأحد قادة حزب البعث يوضح تصور الحزب عن الدين، يقول ميشيل عفلق(1): (الدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى، تجربة انتهت بالفشل، وكلفت البشرية كثيرًا من الجهود ومن الدماء ومن المشاكل، وحدثت تقريبًا في أوقات متفرقة في البلاد الإسلامية وفي أوروبا المسيحية...، الإسلام كان المحرك للعرب، أما اليوم فالقومية وحدها هي الأساس، ولا يمكن أن يَفْهم العرب لغةً غيرَها)(1).

الأكراد في سورية:

الشعب السوري أغلبه شعب مسلم، ويتكون من عدة أعراق يغلب عليها العرب، ويعيش معه مجموعة من أبناء الديانات الأخرى، وقد أثرت فكرة القومية سلبًا على أحد أبرز مكوناته ألا وهم "الأكراد"، فغيرت فكرة القومية نمط العلاقات السائدة بين الأعراق التي تتشارك الأرض السورية، فأقصت غير العربي وتجاهلته لأنه غير عربي فحسب، وأعلت من شأن العربي كُفُؤًا كان أم غير كُفُؤٍ لأنه عربي فقط؛ فظهرت في المجتمع السوري فئة محرومة من جل حقوقها في التمثيل السياسي وغيره لأنها غير عربية فحسب وهي "الكرد"، بينما فتح الباب لغير المسلمين على مصراعيه بوصفهم عربًا قوميين.

على مستوى الدساتير السورية نجد أبرزَها دستورَ عام 1950م، وقد قيل إنه لُخص من خمسة عشر دستورًا لدول رائدة في الديمقراطية والحرية، ورغم هذا لا نجد فيه ذكرًا لأي خصوصية للكرد، ففي المادة الأولى من الدستور عرفت الدولة السورية بأنها "جمهورية عربية، والشعب السوري هو جزء من الأمة العربية" وتقول المادة الرابعة: " اللغة العربية هي اللغة الرسمية"، وجاء الدستور السوري الخامس الذي وضعه حزب البعث العربي الاشتراكي سنة 1973م، فركز كثيرًا على عروبة سورية واشتراكيتها، ولم يعط للكرد حق تعليم أبنائهم بلغتهم الأم في مدارس خاصة بمناطقهم، فنجد دساتير الحكومات -التي تداولت السلطة في سورية بعد نشوء الفكر القومي- تبنى على فكرة الدولة القومية المأخوذة عن الفرنسيين دون خصوصيات.

واشتدت النزعة الإلغائية في سوريا بعد استلام حزب البعث للسلطة في آذار سنة 1963م، فقام بإقصاء المتدينين لأنَّ التدين منافٍ لمبادئ الحزب، وبإقصاء غير العرب من الأقوام الذين احتفظوا بأسلوب عيش توارثوه عن آبائهم، فنتج عن ذلك حرمان مئات آلاف الأكراد السوريين من حقوق المواطنة حتى عام 2012م، فكان ما يزال نحو 400 ألف شخص في محافظة الحسكة يعدون أجانب في السجلات المدنية للدولة، ويحرمون من أبسط الحقوق الإنسانية مثل البطاقة الشخصية وجواز السفر وحق السفر خارج البلاد لأنهم كرد فحسب.

مجلة مقاربات، العدد السادس، المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الثالثة هنا

 

(1) ميشيل عفلق ولد في دمشق 1908م وتابع دراسته في باريس، يعد من مؤسسي حزب البعث ومنظريه، تأثر بزكي الأرسوزي وكارل ماركس، ومات 1989م.

(2) ميشيل عفلق، خطاب ألقي على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943م.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين