تعقيبات سريعة على الردّ المعنون

قبل التعقيب على مقال "كربلاء .. من زاوية أخرى" لفضيلة الشيخ إبراهيم منصور، المنشور في موقع رابطة العلماء السوريين هـــنا ردًّا على مقالي "عن ثورة الحسين المظلوم والمظلومة" هـــنا، أريد بيان بعض النّقاط حول طبيعة الرّدود التي أثارها مقالي هذا والمقال الذي تلاه وعنوانه "لماذا ينبغي على أهل السّنّة إحياء ذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه" هـــنا:

أولًا: إن تفاعل العلماء والدّعاة مع المقالين حوارًا ونقضًا موافقةً ومخالفةً، هو حراكٌ صحّي في عالم الأفكار، فمن تدافع الأفكار وتصادمها تبرق الحقائق ويهطل غيث الحقيقة وهذا مطلب عظيم وغاية كبيرة.

ثانياً: ليس من الغريب أن يتعرض الكاتب الذي يخوض في مثل هذه القضايا إلى الهجوم، وقد وصل هذا الهجوم في حالة المقالين الأخيرين حدّ السبّ والشّتم والاتهام بالتشيع والسبئيّة، ورافقه دخول في النيات والبواطن حتى من قبل كرام الناس، ولكن هذا الانفعال العاطفي وتجلياته السلبية ضريبة لا بد أن تُدفع كفرق العملة عند تبادل الأفكار، وإن كان مما يُثنى عليه في الباحث والداعية إلى الله هو حرصه في موطن الخلاف بالذات على التزام الرّفعة والسموّ وتآلف الأخوّة.

وأمّا فيما يتعلّق بالرّدّ الكريم من فضيلة الشّيخ إبراهيم منصور فأقول:

أولًا: لقد جاء الرّد نافعًا من حيث تسليطه الضّوء على نقاط تحتاج إلى نقاش مستفيض، وإن كانت حدة العبارة قد شوشت على الأفكار، ولكن هذا التعقيب سيحاول استخلاص الأفكار من دغل العبارات الانفعالية قصدا للنفع، فلا يستقيم الطرح الموضوعي مع الحدة، لأن الأفكار إنما تجليها الهدأة.

ثانيًا: مما يلفت النظر في الرد الكريم تجاهله قسمًا تامًا من المقال، وهو القسم المعنون ب "لبّيكَ يا حسين بأسياف يزيد" والذي يتحدّث عن ظلم الشّيعة لثورة الحسين رضي الله عنه، وهذا التجاهل هو اجتزاء يتنافى مع الموضوعيّة في مناقشة المقالات والأبحاث، ويجرح في عدالة التعاطي العلمي معها، خاصة وأن ذلك لم يسبقه توضيح للقارئ بأن الرد سيكون على الجزء المتعلّق بالحديث عن أهل السّنة فقط لا على المقال كله، ولذا فإن هذا الاجتزاء جعل الرؤية غير مكتملة وأسقط الرد في شبهة التحيز.

ثالثًا: تم الاعتراض على توقيت النشر وفق العبارة التالية: "فأما من حيث التوقيت، فلأنه سيكون إضافة لرصيد الشيعة شئنا أم أبينا"، وقد جاءت العبارة بصيغة قطعيّة ينقضها الواقع، فالجواب عن هذا أمران:

1. لم تتوقف حركة الأفكار في الأمّة الإسلاميّة في أحلك الظروف وأقساها، ولا ينبغي أن يخاف أهل السّنة من طرح أيّة فكرة في أيّ وقت فهم أهل البضاعة الأصيلة الصّالحة للعرض، وأهل البضاعة المزيفة هم الذين يخافون من أيّة قراءة نقديّة، كحال نظام الأسد الذي كان يرفض أيّ انتقاد بدعوى أنّ ذلك سيخدم أعداء الوطن.

2. إن مجرد تتبع ردود أفعال الشّيعة على المقال لا يدع مجالا للشكّ بأنهم اعتبروا المقالين الأخيرين لا يصبان في مصلحتهم بل ينقضان أفكارهم، الأمر الذي دفعهم إلى اتهام كاتبهما بأنه ناصبيّ يعادي أهل البيت.

رابعًا: بدا في الرد اعتراض غير مفهوم على تسمية خروج الحسين بأنه ثورة، وهذا يضطرنا على نحو غريب أيضا إلى العودة إلى تعريف مفاهيم بسيطة بُنيت عليها فكرة المقال حتى نتمكن من مناقشتها بموضوعية ، فهل ثمة شك في المعنى الدلالي لكلمة ثورة؟ عندما تعني الثورة رفض الظلم والاستبداد والخروج للتصدي لهما، فإن ما فعله الحسين لا أنسب من تسميته بالثورة، ومن المفترض ألا يكون ذلك إشكاليا

يرفض الرد الكريم وصف خروج الحسين رضي الله عنه إلى العراق بالثّورة مستندا في ذلك إلى" محاولة الصّحب الكرام ثنيه عن الخروج، وإلى تغيير الحسين رضي الله عنه موقفه بعد الوصول إلى كربلاء" وهذا يجاب عنه في النقاط الآتيه:

1. إنَّ الحسين رضي الله عنه لم يبايع يزيد ابتداء حتّى يوصف خروجه إلى العراق بالخروج على الحاكم، ورفضه لبيعة يزيد ابتداء هو "ثورة" وفق المعنى البسيط الذي تم تبيينه آنفا.

2. تمّ الإلماح في الرد الكريم بأن محاولة بعض الصّحب الكرام ثني الحسين رضي الله عنه عن الخروج إلى العراق هو رفض لسلوكه ونهجه، وقد بيّنت الرّوايات خلاف ذلك فالدّافع لمحاولاتهم كان نصحًا منهم له إشفاقًا عليه وخوفًا على حياته من البطش والغدر الذي يتوقّعونه من السلطة الحاكمة

فقد ذكر الذّهبي في سير أعلام النبلاء: "فَأَقَامَ حُسَيْنٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مُتَرَدِّدُ العَزْمِ، فَجَاءهُ أَبُو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، إِنِّيْ لَكَ نَاصِحٌ وَمُشْفِقٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَاتَبَكَ قَوْمٌ مِنْ شِيْعتِكَ، فَلاَ تَخْرُجْ إِلَيْهِم، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُوْلُ بِالكُوْفَةِ: وَاللهِ لَقَدْ مَلِلْتُهُم وَمَلُّونِي، وَأَبْغَضْتُهُم وَأَبْغَضُونِي، وَمَا بَلَوْتُ مِنْهُم وَفَاءً، وَلاَ لَهُم ثَبَاتٌ وَلاَ عَزْمٌ وَلاَ صَبرٌ عَلَى السَّيْفِ"

وبيّن الذّهبي أيضًا بأنَّ خوف ابن عمر رضي الله عنهما من تكرار الخذلان الذي لحق بأبيه وأبيه أن يلحق بالحسين رضي الله عنهم؛ فقد جاء في سير أعلام النبلاء: "فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُوْلُ: غُلِبْنَا بِخُرُوجِهِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ رَأَى فِي أَبِيْهِ وَأَخِيْهِ عِبْرَةً، وَرَأَى مِنَ الفِتْنَةِ وَخُذْلاَنِ النَّاسِ لَهُم مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لاَ يَتَحَرَّكَ"

فدلّ ذلك بمفهومه بأنّ ابن عمر لو علم أنّه لن يلقى خذلانًا لأيّده وأعانه.

بل إنّ ابن عباس رضي الله عنهما نصح الحسين رضي الله عنه بعدم الخروج إلى العراق إشفاقًا عليه ودعاه إلى الخروج إلى اليمن للحاق بشيعة أبيه فيها وكونها بيئة مناسبة لخروجه بخلاف العراق

قال ابن كثير في البداية والنهاية: "لما كان من العشي أو من الغد، جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له: يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونا وشعابا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب.

فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير"

3. إنَّ خروج الحسين رضي الله عنه إلى العراق بأهله وهو رافض لبيعة يزيد يدلّ بشكل واضح أنّه كان يريد الامتناع بأهل العراق عن بيعة يزيد وقد وعده اهل العراق بذلك، بل إنَّ الحسين رضي الله عنه أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب لأخذ البيعة من النّاس قبل مسيره؛ وينقل الذّهبي عن ابن سعد فيقول"ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ بِأَسَانِيْدَ لَهُ، قَالُوا: قَدَّمَ الحُسَيْنُ مُسْلِماً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى هَانِئ بنِ عُرْوَةَ، وَيَكْتُبَ إِلَيْهِ بِخَبَرِ النَّاسِ، فَقَدِمَ الكُوْفَةَ مُسْتَخْفِياً، وَأَتَتْهُ الشِّيْعَةُ، فَأَخَذَ بَيْعَتَهُم، وَكَتَبَ إِلَى الحُسَيْنِ: بَايَعَنِي إِلَى الآنَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفاً، فَعَجِّلْ، فَلَيْسَ دُوْنَ الكُوْفَةِ مَانِعٌ" 

ويذكر ابن كثير في البداية والنّهاية عن قدوم مسلم بن عقيل: "تسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا.

فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور، فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة" وهذا من المعاني االواضحة الصّريحة لثّورة.

بل أكثر من ذلك فقد كان الحسين رضي الله عنه يعلن رفضه البيعة ليزيد حين طلبها له معاوية رضي الله عنه في حياته، وكان ويعلن أنّه رفضه للبيعة هو من جهاد الظّالمين، فقد جاء عند ابن عساكر وغيره: "وَقَدِمَ المُسَيَّبُ بنُ نَجَبَةَ وَعِدَّةٌ إِلَى الحُسَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ الحَسَنِ، فَدَعَوْهُ إِلَى خَلْعِ مُعَاوِيَةَ، وَقَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا رَأْيَكَ وَرَأْيَ أَخِيْكَ.

فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعطِيَ اللهُ أَخِي عَلَى نِيَّتِهِ، وَأَنْ يُعطِيَنِي عَلَى نِيَّتِي فِي حُبِّي جِهَادَ الظَّالِمِيْنَ"

وفجاء عند ابن كثير في البداية والنهاية: "وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّيْ لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَكُوْنَ الحُسَيْنُ مَرصَداً لِلْفِتْنَةِ، وَأَظُنُّ يَوْمَكُم مِنْهُ طَوِيْلاً

فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الحُسَيْنِ: إِنَّ مَنْ أَعْطَى اللهَ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَعَهْدَهُ، لَجَدِيرٌ أَنْ يَفِي، وَقَدْ أُنْبِئتُ بِأَنَّ قَوْماً مِنَ الكُوْفَةِ دَعَوْكَ إِلَى الشِّقَاقِ، وَهُمْ مَنْ قَدْ جَرَّبتَ، قَدْ أَفْسَدُوا عَلَى أَبِيْكَ وَأَخِيْكَ، فَاتَّقِ اللهَ، وَاذْكُرِ المِيْثَاقَ، فَإِنَّكَ مَتَى تَكِدْنِي، أَكِدْكَ

فَكَتَبَ إِلَيْهِ الحُسَيْنُ: أَتَانِي كِتَابُكَ، وَأَنَا بِغَيْرِ الَّذِي بَلَغَكَ جَدِيرٌ، وَمَا أَرَدْتُ لَكَ مُحَارَبَةً وَلاَ خِلاَفاً، وَمَا أَظُنُّ لِي عُذْراً عِنْدَ اللهِ فِي تَرْكِ جِهَادِكِ، وَمَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ وَلاَيَتِكَ" فأيّ معنى للثّورة أوضح من هذا؟!

4. إنَّ العرض الذي عرضه الحسين رضي الله عنه في جلسة التفاوض على عمر بن سعد لا يتنافى مطلقا مع معنى الثّوريّة في سلوك الحسين رضي الله عنه بل هو يعطي للثّائر معاني في منهجيّات التعامل مع الظرف المحيط بما لا يوقعه في التذلل من المفاوضات والاتفاقيات، وهذا ما جرى حين رفض عرض ابن زياد المذل المهين وقرر المواجهة، وإنَّ قرار الحسين رضي الله عنه مواجهة جيش يزيد هو قرار ثوريّ بامتياز، رافض للخضوع والذّل مع عدم توافر الإمكانات والكفاءة في العدد والعتاد، وهل الثّورة إلّا هذا؟!

5. وهذا ما عاد الرد مؤكدا عليه حين قال: "وأما إذا كانت المواجهة مفروضة عليك، لا خيار لك في التوقيت ولا المكان ‏ولا التحييد ولا التأجيل ولا حتى المسالمة، (كشأن الحسين رضي الله عنه ‏حين رُدّت عليه كل خيارات المسالمة الكريمة، وفرضت عليه المواجهة ‏الأليمة) فالقول عندئذ:‏

مشيناها خطى كُتبت علينا ومن كُتبت عليه خطى مشاها

ومَن كانَت مَنِيَّتُهُ بِأَرضٍ فَلَيسَ يَموتُ في أَرضٍ سِواها"

والرد هنا يؤكّد تمامًا ما قاله المقال، فالمواجهة قد فرضت على الحسين رضي الله عنه، كحال معظم الثّورات التي تفرض فيها المواجهة على الثّائرين فرضًا ويُدفعون إلى الثّورة دفعًا، فإن الثورات لا تكون إلا عند استنفاد كل خيارات التغيير الأخرى، ولا تلجأ لها الشعوب ترفا، لذا فإن كون المواجهة مفروضةً كما ورد في نص الرد لا ينفي عنها صفة الثّورة بل يؤكّدها.

6. لقد ورد في مقالي "لماذا ينبغي على أهل السّنة إحياء ذكرى استشهاد الحسين" ما نصّه: "ولكن هناك من يرفض وصف خروج الحسين رضي الله عنه بالثّورة في وجه الاستبداد ‏السّياسيّ ليزيد، وهناك من يجعل اجتهاده في الخروج خاطئًا، ولهم أن يجتهدوا في ذلك ‏ويتبنّوا ما أوصلهم إليه اجتهادهم‏" فللمرء أن يسميها ثورة وله ان يسميها جهادًا وله أن يسميها مواجهة للظلم، فكلّ هذا لا ينفي عنها وصف الثّورية، حتى حين يتم الأخذ بالرّأي القائل بأنَّ خروج الحسين رضي الله عنه اجتهاد مجانب للصّواب، فقد تكون الثّورة في وجه الظّلم مع عدم مراعاة الظروف المحيطة اجتهادًا غير صائب في توقيتها وآلياتها، ولكنّ هذا لا ينفي عنه وصف الثّورة ولا يلغيه، مع التأكيد على تبنيَّ الرأي بأنَّ الحسين رضي الله عنه كان محقًّا في مواجهته للاستبداد الذي تمثّل في حكم يزيد.

7. يقول الرد الكريم: "ومعلوم أن من أصول الاستدلال أن العالم أو المتبوع إذا ورد عنه قولان ‏متعارضان، أو موقفان متغايران لا يمكن الجمع بينهما، فالحكم للمتأخر منهما" ، وإننا نجد حين نطبق ذات القاعدة أن الموقف الأخير للحسين رضي الله عنه هو قرار المواجهة مع جيش يزيد، وهذا القرار جاء بعد عروضه الثلاثة على عمر بن سعد، مما يدلّ أنَّ العروض الثلاثة كانت في موقف مفاوضة، والمفاوضات ليست إلا أمرا طبيعيا في سياق الحركات الثورية، لا تخلو منها ثورة من ثورات التاريخ، ولا يُستدل بها على تندم الثوار وتراجعهم. حتّى إذا رفض جند يزيد العروض كما هي وأصرّوا على إجباره النّزول على حكم ابن زياد إذلالا له، أعلن الحسين قراره الأخير وهو الرّفض والمواجهة، وهذا هو الموقف المتأخّر الذي تتم المطالبة بالرجوع إليه، والذي يؤكد مجددا أنَّ فعل الحسين رضي الله عنه هو ثورة في وجه الاستبداد والخضوع لجيش يزيد لم يشبها ندم أو تراجع.‏ 

8. وقد ورد في الرد الكريم: "إن ثمرة هذه الطريقة الخاطئة في الاستدلال أن يوجه الحدثُ إلى غير وجهته، ‏وإلى غير مراد صاحبه الحسين رضي الله عنه، وأن يجعل ما استكره عليه ‏الحسين حجة، وكأنه فعله مختارا له مغتبطا به" 

وهنا نعود مجددا إلى اضطرارنا إلى مناقشة المفاهيم الأولية التي بُني عليها المقال، فالمقال لم يدعي أن الحسين رضي الله عنه اختار المواجهة طائعا مغتبطا، بل إن الثورة لم تكن يوما ترفا يختاره شعب أو جماعة، فهي ليست إلا اضطرارا يلجأ إليه الثائر عندما تنعدم كل أساليب التغيير الأخرى، وهو يلجأ لها مكرها لعلمه بارتفاع فاتورتها، وهذا هو ما يجعلها كتابا مرشدا لتعلم معاني الحرية وكسر القيود والتضحية، ومنبعا لاستلهام الدروس والعبر، ولذا فإن الحسين يستحق أن يكون ملهما للثّورات بفعله وهو الذي فعله مضطرًا، ما يجعل ثورته أبلغ وأوقع في النّفس.

9. وقد ورد في الرد: "وغاية الكاتب من وراء هذه ‏المغالطة أن يجعل من الحسين رضي الله عنه ملهما ‏للثورات محرضا عليها، في ‏وقت أصبحت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى التروي ‏والأناة والسير بخطى ‏واثقة، وخطط مدروسة؟!‏" ‏

وهنا تختلط الأوراق بين دخول في النوايا، والحديث عن الحالة السياسية الحالية من وجه نظر شخصية، والافتراض غير الدقيق بأن المقال يدعو إلى إعادة إنتاج الحدث التاريخي في واقعنا الحالي بتفاصيله، مما يصعب التعليق على هذه العبارات وما تلاها من استقراء سياسي للوضع الحالي. فمن المهم التمييز بين الدعوة إلى استلهام عبر وقيم عامة، وبين توظيف هذه القيم في حقول السياسة والقيادة على نحو مبصر وواعٍ ووفق منهجيات لا تناقش على هامش مقال فكريّ يناقش زاوية نظرٍ محدّدة ، والرد ينسب للمقال من الخلط بين هذين الأمرين ما هو بريء منه مما وقع فيه الرد بكل وضوح. 

وأجدني مضطرا هنا للتأكيد على أن استلهام الدّروس لا يعني مطلقا إعادة التفاصيل ذاتها، وتكرار المشهد، بل الوقوف على الحادثة ودراستها دراسةً متأنية وبعث روح الثّورة على الظلم في النّفوس مع ما يلائم الواقع المحيط من ظروف مختلفة.

خامسًا: ورد في الرد الكريم: "أهل السنة والجماعة. يدخل فيه أول ما يدخل أئمتهم في العلم من قرَّاء ومحدِّثين ‏وفقهاء وقضاة ومفتين ومربين ومؤرخين وقادة الرأي وأهل الحل والعقد منهم...‏

وحاشا أن يكون هؤلاء مطْبقين على الظلم أصلا، فضلا عن أن يكون مظلومهم ‏هو الإمام الحسين، ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم"

مرة أخرى قاد اجتزاء الكلام في الرد إلى القول بأن المقال يتهم الأمة بظلم شخص الحسين، وهو ما لم يرد ذكره أو الإشارة له أبدا، بل إن المقصود البين هو انتقاد آليّة التعاطي مع ثورة الحسين وليس مع شخص الحسين رضي الله عنه.

ولم يأت الكلام إلا توصيفا لواقع الحال لا ينكره أي مطلع، من إهمال الحديث عن ثورة الحسين وتحاشي ذكرها بل خشيته خوفا من الاتهام بالتشيع، الأمر الذي يعد ظلمًا لهذه الثورة، فالوصف في المقال قاصر على معنى محدد وقضيّة محددة، أما علماء ومفكرو وأئمة اهل السنة فحاشاهم أن يكونوا ممن يظلمون أحدا من أهل البيت رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، والإيحاء بغير ذلك في الرد أمر لا صحة له، وهو يزيد من التشويش بالضرب على ذات الأوتار التي حذر المقال أصلا من الضرب عليها.

سادسًا: يقول الشّيخ الكريم: "‏ وَدّ الرافضة لو ظفروا بأمثال ذلك من كتّاب أهل السنة وعلمائهم ‏ومفكريهم، ليقيموا الدليل بطريقة (من فمك أدينك) على أن أهل السنة ‏نواصب مبغضون لأهل البيت، والدليل: اقرؤوا ما كتب الأستاذ محمد خير ‏موسى"

إن مجرد تتبع ما قاله الشّيعة عن المقال وكاتبه يثبت مجانبة هذا الادعاء الصّواب، وهي مجانبة ابتدأها الرد أصلا بإهماله الحديث عن كل ما ذكره المقال من ظلم تعاطي الشيعة مع ثورة الحسين رضي الله عنه، الأمر الذي أدى لشتم الكاتب من قبل الشيعة ووصفه بأنه ناصبي وعدو لأهل البيت. وهنا يتبين أن إغفال جزء من المقال كان تعاميا عن ركن أساسي من أركان الفكرة لا تستقيم إلا به، والرد على فكرة ناقصة لا يمكن اعتباره إلا ناقصا بنقصانها.

سابعًا: يستحضر الرد عبارات قالها الأفّاك أحمد حسون تتفق مع ما ورد في المقال، ويستخدمها للتعريض بكاتبه قائلًا: " هل تجد أيها القارئ فرقا في مضمون الخطابين؟ خطاب الكاتب، وخطاب ‏المفتي.؟

ألم أقل لكم: إن المقال يعتبر إضافة إلى رصيد الشيعة، شئنا ذلك أو أبينا؟"

وإنني أجلّ جميع الدعاة من الانزلاق في هذا المنزلق الأخلاقي من الغمز الذي لا يليق بحملة العلم والمتصدرين للدعوة إلى الله تعالى، فضلا عن الانزلاق في هذا المنزلق المنطقي. فاتفاق ما جاء على لسان كاتب المقال مع بعض ما قاله أحمد حسون بل مع بعض ما قاله أبو جهل أو أميّة بن خلف بل مع ما يقوله أعدى أعداء الإسلام ليس حجة على بطلان الفكرة، فالأفكار لا تُناقش من منطلق قائلها، بل من منطلق صحتها وبطلانها، وكل إلحاق للفكرة بشخص قائلها هو سقطة موضوعية لا تُجبر.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي هريرة رضي الله عنه: "صدقكَ وهو كذوب" وهو هنا يتحدّث عن إبليس، لذا فإن اتفاق بعض ما قاله أحمد حسون مع ما قاله بعض أئمة الإسلام في قضيّة فقهية أو فكريّة لا يعدّ ذلك مطعنًا بقدر ما يعد مطبا للطاعن نفسه.

ثامنًا: وقد ورد في الرد: "ولو أنصف الكاتب، وأنزل أهل السنة والجماعة منزلتهم، للزم غَرْزهم، ووزن ‏كلامه بموقفهم، ولم يخالف ما يراه إجماعا لهم، ولرأى أن مجيء كلامه على ‏خلاف ما يقرِّره هو من منهج واختيار أهل السنة والجماعة، لدليل على ‏بطلان كلامه، وهل هناك أدل على بطلان كلام ما، من كون ذلك الكلام ‏مخالفا لإجماع أهل السنة والجماعة؟"

وهنا تبدو تقريرات الكاتب واستدلاله بالإجماعات أمورا غامضة للقارئ، فليس من الواضح فعلا عن أي إجماع يتحدث الكاتب، خاصة أن إيراد مثل هذه العبارات ذات الوجاهة العلمية والشرعية "كمخالفة إجماع أهل السنة والجماعة" تحتاج حذرا كبيرا عند التعاطي معها لحساسيتها وثقل وقعها على أسماع الناس، وهو حذر لا يجب أن يثني الكاتب عنه انفعال أو ثورة غضب.

تاسعًا: ورد في الرد الكريم: " وأقول: ما أبعد هذا لكلام عن الواقعية والتجرد وعن منطق العلم! وما أثقله ‏بالمغالطة والتلبيس!‏

فأين وجدتَ أيها الكاتب هذا الربط بين هذه المنقبة الشريفة النفيسة للحسين ‏رضي الله عنه بأنه سيد شباب أهل الجنة، وبين ثورته التي تزعم على الحكم ‏المستبد، حتى قلت: أول من ثار... فكان سيد شباب أهل الجنة؟

وهل ثبتت هذه المنقبة للحسين بعد الثورة المزعومة أم قبلها؟"

من المحزن أن تختلط الألفاظ الهجوميّة بالرّدود العلميّة، ومن المحزن أن يجد المرء أنه يصرف الكثير من الوقت للرد على نقاط لم يدع لإثارتها إلا التنقيب عن أي منفذ ممكن في المقال لنقده، مهما كان هذا المنفذ لا يحتمل النقد.

ومع ذلك أجيب بأنَّ وجود منقبة قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للحسين رضي الله عنه لا يعني أنَّ هذه المنتقبة قاصرة على وقت أو زمان مخصوص، بل هي منقبة تصاحبه في حياته كلها وتلازمه في أحوالها كلّها، فترتيب فعل من الأفعال على هذه المنقبة أو تعليله بها لا يتنافى مطلقًا مع كونه وصف بها قبل الفعل أم بعده.

فالقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقوله هذا وحي فهو ينطبق على الحسين رضي الله عنه في كلّ أحواله وأفعاله.

وأما قولي " أول من ثار... فكان سيد شباب أهل الجنة" فهو ربط بين الفعل وعاقبته، فثورته كانت سبب استشهاده ودخوله الجنّة ليكون سيّد شبابها كما وصفه بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

عاشرًا: يقول الشّيخ الفاضل: " ثم لماذا هذه الانتقائية في إشاعة هذه المنقبة في حقِّ الحسين، والسكوت عنها ‏في حقِّ أخيه الحسن، مع أنها ثابتة لهما في نص واحد كما أسلفت؟!‏ ... فلماذا لا نحتفي بالإنجاز العظيم للحسن عام واحد وأربعين، الذي تمَّ فيه ‏الصلح بين سيدنا الحسن بن علي وبين سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله ‏عنهم، وحُقنت فيه الدماء، ووضعت فيه الحرب التي كانت على أهبة ‏الانفجار، واغتبط الناس بذلك وسموا ذلك العام "عام الجماعة"‏"

وأنا متفق بأنَّ الانتقائيّة مرفوضة، لكن ما أؤكد على رفضه أيضا هو خلط الأوراق والأفكار في سياق نقاش فكرة واحدة وواضحة ومحددة، وإن التخوف من مثل هذه الانتقادات يجب ألا يستجر الباحث لتشعيب مقاله للحديث عن ألف فكرة أخرى قد يُنتقد بإغفالها في سياق انتقاد فكرة المقال الأصيلة، فهذا يُعاب على الناقد لا على الكاتب.

أما موقفي من الحديث عن عموم اهل البيت رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، ودعوتي إلى إحياء ذكرى عام الجماعة وسيرة سيّدنا الحسن رضي الله عنه، بل إلى إحياء الذّاكرة المسلمة بإحياء سيرة أهل البيت كافة وكلّ الصحابة رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، أمر على الناقد في هذه الحالة أن يعود إليه بنفسه حتى لا يقع فيما يجرح في نقده.

حادي عشر: وقد ورد في الرد: " وكأنَّ القضية عند الكاتب نصيَّة قطعيَّة لا يسوغ فيها اجتهاد مخالف.‏

وبهذه المقارنة يتَّضح لك الفرق بين من يكتب في هذه القضية عن رويَّة وبصيرة ‏وورع، وبين من يكتب فيها مفتقرا إلى قليل من ذلك أو كثير.‏"

إن افتراض قطعية القضية عندي افتراض من عند نفس كاتب الرد، ليس له أي منطلق حقيقي في المقال، بل إن تقبل الاجتهاد المخالف في المسألة أمر كنت أود لو تحلى به أي هجوم على المقال، إذا لما رأينا كل هذا الاستغراب وهذا الانفعال عند من ينادي بتقبل الاجتهاد المخالف، وهو نفسه لا يتقبله.

وإن ختام الرد باتهام كاتب المقال بالافتقار إلى الرّويّة والبصيرة والورع، والذي يدخل في دائرة الشتم الشّخصي في أحسن الأحوال، حاله حال اللهجة الهجومية الحادة للرد ككل، هو مناسبة تدعوني للتأكيد مجددا على أني أُجلّ الدّعاة والباحثين عن اعتياد مثل ذلك فهو مهلكة عظيمة، وهو يسمم أجواء الأفكار ويعرقل تطورها ونموها، كما أن النقد الموضوعي هو أصح منطلقات التقدم وتصحيح الأخطاء، وهو نضج آن أن نصل إليه.

وأختم بالشّكر لكل من نقد المقال وناقشه، وأسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم وأن يجعل فيها النّفع وإثراء الحقيقة وبلوغ الحقّ؛ إنّه أكرم مسؤول وبالإجابة جدير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين