استتابة ابن تيمية

قالوا: ما مبدأ إعجابك بابن تيمية؟ 

قلت: كنت طالبا في دار العلوم لندوة العلماء مولعا بدراسة منطق اليونان وفلسفتهم، مفرطا في تقديرهما أشد الإفراط، ومغاليا في الإعجاب بهما أيما مغالاة، إذ وقفت على كتاب (الرد على المنطقيين) لابن تيمية، فكأني وقعت على كنز ثمين وعلم غال دقيق، فقرأته أكثر من مرة، وتساقط من عيني منهج اليونان في التوصل إلى الحقائق والاستدلال عليها واضمحل اضمحلالا، وعظم ابن تيمية في قلبي وخضعتُ لنبوغه وإمامته، ووجدت كتابه حقا دامغا قاهرا لم ينسج على منواله، ولم يسبق له نظير في نقد ما أصّله أرسطو وأذنابه وفرعوه، وأسسوه وبسطوه، وأنعمت النظر في هذا الكتاب فوجدت فيه مسائل منطقية وفلسفية، ابن تيمية أبو عذرتها، ثم درست المنطق الغربي الحديث، فوجدته يطابق كل المطابقة بما سبقهم إليه ابن تيمية قبل سبعمائة عام، ورأيت كأن المنطقيين الغربيين أعادوا صياغة المنطق في ضوء انتقادات ابن تيمية وتأصيلاته.

قالوا: وهل سبقك أحد إلى إجلال هذا الكتاب؟

قلت: نعم فلاسفة الغرب وعلماء الشرق، كلهم يشتركون في الإعجاب بابن تيمية.

قالوا: وهل من علماء الندوة من سبقك إلى النظر في هذا الكتاب؟ 

قلت: نعم العلامة شبلي النعماني، والعلامة السيد سليمان الندوي، قرآه فاستسلما له مفتونة به عقولهما، يقول الثاني في تقديمه للكتاب: "فمما يجب عليّ في هذه الوجيزة الإلماع به هو ما قال المصنف في حقيقة الحد والجنس والفصل واللزوم وحقيقة العلة والقياس والاستقراء، والاستدلال بالمشهورات، والاكتفاء بمقدمة واحدة في القياس، وغيره من المباحث العويصة التي حلّ المصنف مشكلها ببيان واضح ودليل راهن، وما قال في العلة واللزوم هو عين ما قاله هيوم الفلسفي في كتبه، ومسألة اللزوم والعلية من المسائل العويصة التي ضلت في واديها الأفهام ونبعت من عيونها ضلالات الطبائعيين من أهل الإلحاد، وكم لهذا النابغة من نوادر لم يسبقه إليها أحد رضي الله عنه".

قالوا: فما تقول فيما سطره الإمام عبد الحميد الفراهي في كتابه البديع "حجج القرآن": "ومنهم من انتبه لأكثر من ذلك (أي لأكثر أباطيل عقليات اليونان) كابن تيمية رحمه الله فرد على المنطقيين ردا طويلا، ودل على زيغ نهج المتكلمين، ولكنه اقتنع بالهدم، ولم يبن قصرًا يأوون إليه، والناس قلما يتركون ما اعتادوا به من دون بدل يتخذونه عوضًا عما ينبذونه"؟

قلت: أصاب فيما نصّ على انتباه ابن تيمية لأباطيل عقليات اليونان ودلالته على زيغ منهج المتكلمين وهدمه لمبانيهم هدمًا، ولكنه أخطأ في قوله إن ابن تيمية اقتنع بالهدم.

قالوا: هذه أول مرة نراك تخطئ الفراهي، فما وراء ذلك؟ 

قلت: إني تعلمت من كتابات الفراهي أشياء كثيرة جدا، وهناك أمور تفرد بها، وسبق فيها غيره من العلماء المحققين، ولكنه بشر يخطئ كما يخطئ غيره، ولا أرضى لنفسي بالتعصب لأحد أو على أحد.

قالوا: بين لنا خطأ الفراهي.

قلت: إن ابن تيمية متبع لمنهج القرآن الكريم، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان وأنعم عليه بالفطرة، والحواس والعقل، وهذه مواهب الله التي تضمن له العلم الصحيح والهدى والنور، ولكن الإنسان قد يضل عن العلم والهدى والنور من أجل الكسل أو الهوى أو الإعجاب بغيره أو التأثر بعادات المجتمع ورسومه وتقاليده، فيحتاج أن ينبَّه على ضلالته وخطئه، وهذا ما يفعله القرآن، يحث الإنسان على أن يفقه فطرته ويعمل حواسه وعقله، ثم ينبهه على ضلالته في الفكر والنظر والعمل، فليس منهج القرآن منهج تأصيل، بل هو منهج تصحيح، لا يعطل المدارك البشرية بل يطورها ويحميها من السفه والضلال.

اتبع ابن تيمية في كتاباته المنهج نفسه، ساعيا أن يعرف الإنسان فطرته ويستعمل حواسه وعقله ويقوي إرادته، ومنبّها على زيغ المذاهب الفكرية وضلال الآراء الفلسفية بحجج قوية ودلائل ثابتة، فإذا تحرر الإنسان من قيود هذه الآراء وأغلال الضلالات فإن فطرته وحواسه وعقله تهديه إلى الحق، فلا حاجة إلى تأصيل مذهب جديد، ولكن بني آدم يفتقرون إلى من يدلهم على انحرافات المناهج البشرية ومتاهاتها، وقد تقاصر معارضو ابن تيمية وموالوه عن إدراك سمو منهجه.

قالوا: كيف تقاصر عن فهمه معارضوه؟

قلت: إنهم ظنوا أنه يريد أن يستبدل مذاهبهم بمذهب جديد، فعارضوه متعصبين لمذاهبهم ومتحزبين لها، وابن تيمية فأبعد الناس عن تأسيس مذهب فكري وفلسفي أو إنشاء 

مدرسة عقدية وكلامية أو فقهية، وهذا ما كان عليه السلف الصحابة والتابعون، لم يؤسسوا مذهبا، ولكنهم عارضوا أصحاب المذاهب والآراء والأهواء ملحين على التمسك بالقرآن والسنة، ومن ثم قال أحمد بن حنبل للمعتزلة: "أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله".

قالوا: كيف تقاصر موالوه؟ 

قلت: إن أبا الحسن الأشعري رحمه الله تعالى تاب عن الاعتزال، وقرر أن يدافع عن مذهب أحمد بن حنبل وأهل الحديث، فخلفه أناس وطوروا منهجه إلى مذهب جديد، كذلك فعل كثير ممن يزعم اتباع ابن تيمية فطوروا مذهبا باسمه يتحمسون له ويدافعون عنه، وابن تيمية بريء منهم.

قالوا: فما تقول فيمن يزعم أن ابن تيمية استتيب سنة سبع وسبعمائة؟ 

قلت: استتيب من الحق الذي ألف في إثباته المجلدات، أو الباطل الذي ألف في دحضه المجلدات؟

قالوا: أقر على نفسه بالأشعرية. 

قلت: وهل استساغته عقولكم؟ ألم تقرؤوا كتبه؟ ما أبعده عن المذاهب والآراء البشرية؟ ألم يوقفكم قوله تعالى: "واجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم".

قلت: فالباطل الذي تاب منه، والحق الجديد الذي رجع إليه، هل هو نفسه عرفهما حق المعرفة؟ وهل عرفهما أصحابه؟ وهل عرفهما معارضوه؟

فإن كان ابن تيمية عارفا لهذه الاستتابة التي رمي بها فلماذا لم يرد الباطل الذي تاب منه في مجلدات جديدة؟ ولماذا لم يقرر الحق الجديد في مجلدات؟ وابن تيمية كما تعرفون يطيل الكلام في قضايا أقل أهمية وأقل خطورة. ألا ترون أبا الحسن الأشعري إذ تاب تجلت توبته في كتاباته؟

هل تطابق كتبه الجديدة التي ألفها بعد سنة سبع وسبعمائة مذهبه الجديد؟ أم هي تتوافق مع كتبه التي ألفها قبل سنة سبع وسبعمائة؟

وهل تبنّى أصحابه مذهبه الجديد؟ أم ما زالوا معه على الحق الذي شهد به في كتبه الجديدة والقديمة واحتج له بالحجج الداحضة الباهرة؟

وهل إن معارضيه والوه بعد هذه التوبة؟ أم ظلوا معارضين له؟

ألا ترون هذه الاستتابة لا تنسجم مع حياته، فظلت مواقفه كما هي، وظلت كتاباته كما هي، ولعل معارضيه أعقل منكم، فإنهم لم يغيروا موقفهم منه بعد هذه الاستتابة المزورة أو المكرهة.

قالوا: فأين نقف من دعوى الاستتابة هذه؟ قلت: اقرؤوا مؤلفات ابن تيمية القديمة والجديدة، وانظروا هل هي متوافقة؟ أم متخالفة، فإن كانت متوافقة فما أمر الاستتابة إلا باطلا، وإن كانت متخالفة فاعلموا أن المتأخر ينسخ المتقدم، فابحثوا عن ناسخ كلامه من منسوخه.

قالوا: وددنا لو ذكرت لنا منهج ابن تيمية في معرفة الحقائق والاستدلال عليها.

قلت: هو منهج الكتب السماوية، ومنهج رسل الله وأنبيائه، ومنهج الصحابة والتابعين وسائر الأئمة المحققين.

قالوا: اشرحه لنا،

قلت: سأفرد له مقالا، فادعوا الله لي بالتوفيق والتيسير.

انظر التعقيب على هذا المقال في :"التعليق على استتابة ابن تيمية" للشيخ بلال فيصل البحر هنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين