الحدود بين الغلو والرفض ضوابط وموانع (4)

سقوط الحدود بالرجوع عن الإقرار وبالتكذيب

الضابط الثالث: سقوط الحدود بالرجوع عن الإقرار:

إذا ثبتت الحدود بالإقرار، فلا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنها تسقط بالرجوع، إذا كان الحد حقًا لله تعالى؛ لأن الرجوع عن الإقرار يورث الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات (1).

إن الآثار الكثيرة المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة تؤيد صحة هذه القاعدة، من ذلك أنه لما جاء ماعز معترفًا بالزنا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت)) (2) كل ذلك يلقنه أن يقول نعم بعد إقراره بالزنا.

وجيء له بسارق معترف بالسرقة فقال له: ((أسرقت؟ ما إخاله سرق)) (3)، ولما جاءته الغامدية مقرة بالزنا، قال لها نحوًا من ذلك.. فهذه جرائم من جرائم الحدود كان الدليل الوحيد فيها على الجريمة هو الإقرار، وكان الرسول يلقن المقر أن يعدل عن إقراره، ولو لم يكن للعدول أثره في درء الحد لما أوحى به الرسول للمقر. 

ولما جاءت شراحة الهمدانية معترفة بالزنا لعلي رضي الله عنه قال لها: (لعله وقع عليك وأنت نائمة؟ لعله استكرهك؟ لعل مولاك زوجك منه وأنت تكتمينه؟) (4) وما كان علي كرم الله وجهه يقصد من هذه الأسئلة إلا ما قصده الرسول عليه السلام (5).

ومن أجل ذلك يرى بعض الفقهاء أنه يستحب للقاضي أن يعرِّض للمقر بالرجوع عن الإقرار إذا لم يكن ثمة دليل إلا الإقرار.

والرجوع عن الإقرار قد يكون نصًّا، وقد يكون دلالة، بأن يأخذ الناس في رجمه، فيهرب ولا يرجع، أو يأخذ الجلاد في الجلد فيهرب، ولا يرجع، فلا يتعرض له، لأن الهرب في هذه الحالة دلالة الرجوع.

واستثنوا حد القذف، فإنه لا يسقط بالرجوع، لأنه حق العبد، وهو لا يحتمل السقوط بالرجوع بعدما ثبت كالقصاص، ويسقط الحد برجوع الشهود كلهم أو بعضهم إذا كان الباقي أقل من النصاب بعد القضاء، قبل الإمضاء (6).

وإذا تبين أن الإقرار كان نتيجة إكراه كان الحكم بالبراءة واجبًا، إذ الإقرار نتيجة الإكراه أو التهديد باطل.

ولأن الإقرار يكون حجة لترجيح جانب الصدق فيه، فإذا امتنع المقر عن الإقرار حتى هُدد أو أُكره فالظاهر أنه كاذب في إقراره، والعدول عن الإقرار الصحيح يدرأ به الحد للشبهة، ولكن الإقرار يبقى مع هذا مرجحًا فيه جانب الصدق، فيصلح دليلًا يُعزَّر به وإن لم يصلح دليلًا لعقوبة الحد، والمسألة على كل حال متروكة لتقدير القاضي، فإن اقتنع أن الإقرار صحيح عاقب بعقوبة تعزيرية، وإن لم يقتنع حكم بالبراءة.

وورد في بدائع الصنائع: (وأما بيان ما يسقط الحد بعد وجوبه فالمسقط له أنواع: منها الرجوع عن الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقًا في الرجوع وهو الإنكار، ويحتمل أن يكون كاذبًا فيه، فإن كان صادقًا في الإنكار يكون كاذبًا في الإقرار، وإن كان كاذبًا في الإنكار يكون صادقًا في الإقرار، فيورث شبهة في ظهور الحد، والحدود لا تستوفى مع الشبهات) (7).

ولكل حد من الحدود تفاصيل في الإقرار، كعدد مرات الإقرار، وشروط المقر وغير ذلك، يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه.

فيجب على القاضي أن يلقن المقر بالرجوع عن إقراره، وإن رجع المقر يخلي سراحه ولا يعاقبه أو يعاقبه بعقوبة تعزيرية مناسبة، وقد شهدنا اليوم الكثير من الحالات القضائية الظالمة التي يقام فيها الحد بالرغم من رجوع المقر عن إقراره وإنكاره للجريمة، ناهيك عن عدم اعترافه بها أصلا، بل يُكره المتهم ويُضرب ليعترف بأنه قام بهذه الجريمة الحدية ثم يعاقب عليها.

الضابط الرابع: سقوط الحدود بالتكذيب وغيره:

تكذيب المزني بها للمقر بالزنا قبل إقامة الحد عليه، وتكذيب المقذوف شهوده على القذف، وهي البينة بأن يقول: شهودي زور، كما أن ادعاء النكاح والمهر قبل إقامة حد الزنا تعتبر من مسقطات الحدود عند الحنفية.

يقول الكاساني في مسألة مسقطات الحدود: (و"منها" تكذيب المقذوف حجته على القذف - وهي البينة - بأن يقول بعد القضاء بالحد قبل الإمضاء: شهودي شَهدُوا بزور؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقًا في التكذيب فتثبت الشبهة، ولا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة، "ومنها" تكذيب المزني بها المقر بالزنا قبل إقامة الحد عليه بأن قال رجل: زنيت بفلانة فكذبته وأنكرت الزنا، وقالت: "لا أعرفك" ويسقط الحد عن الرجل، وهذا قولهما، وقال محمد: لا يسقط) (8).

وورد: (فأما إذا ادعت النكاح والمهر قبل إقامة الحد عليه يسقط الحد عن الرجل بالإجماع؛ لأنه لم يجب عليها للشبهة؛ لاحتمال أن تكون صادقة في دعوى النكاح فتمكنت الشبهة في وجوب الحد عليها، وإذا لم يجب عليها الحد؛ تعدى إلى جانب الرجل فسقط عنه وعليه المهر؛ لأن الوطء لا يخلو عن عقوبة أو غرامة)(9).

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

الحلقة الثالثة هنا

======-

(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 135)

(2) صحيح البخاري: 6824- 8/167

(3) سنن البيهقي الكبرى: 17715- 8/271

(4) سنن البيهقي الكبرى: 17417- 8/220

(5) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (1/ 215)

(6) البدائع 7 / 61- روضة الطالبين 10 / 97- المغني 8 / 197- الفقه الإسلامي وأدلته 8/6099

(7) بدائع الصنائع: 7/61

(8) بدائع الصنائع: 7/61

(9) بدائع الصنائع: 7/61 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين