الحدود بين الغلو والرفض ضوابط وموانع (3)

سقوط الحدود بالشبهة

الضابط الثاني: سقوط الحدود بالشبهة

إن الشبهة بأنواعها العديدة في الجريمة، سواء أكانت شبهة في الفعل، أم شبهة في الفاعل، أم شبهة في المحل، تدرأ الحدود وتسقطها بإجماع أهل العلم؛ قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات، فمن زنى أو سرق أو شرب خمرًا جاهلًا بالتحريم بأن أسلم حديثًا أو نشأ في بلد بعيد عن العلماء أو سرق الدائن من مدينه ما يعادل دينه، ولو كان الدين مؤجلًا، أو سرق الضيف من مضيفه، أو سرق أحد الزوجين من الآخر، أو سرق الشخص من أحد أقاربه المحارم، أو ادعى المتهم وجود زوجية بينه وبين امرأة، فلا يقام عليه الحد؛ لأن الشبهة تجعل له معذرة) (1).

والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)) (2)، وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)) (3).

والحديث المروي في ذلك مشهور بين العلماء، وتلقته الأمة بالقبول وأصبحت (درء الحدود بالشبهات) قاعدةً فقهيةً معمول بها بين الفقهاء (4).

وقد عمل الصحابة بها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات) (5). 

وقد أنكر الظاهريون قاعدة درء الحدود بالشبهات، فإنهم يرون أن الحد لا يحل درؤه بالشبهة، ولا يسلمون بصحة ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة (6).

ما يترتب على درء الحدود بالشبهات:

تختلف النتائج التي تترتب على الأخذ بقاعدة درء الحدود بالشبهات، ففي بعض الأحيان يؤدي تطبيق القاعدة إلى درء عقوبة الحد وتبرئة المتهم من الجريمة المنسوبة إليه، وفي بعض الأحيان يؤدي تطبيق القاعدة إلى درء عقوبة الحد وإحلال عقوبة تعزيرية محلها.

ويُبرأ المتهم من الجناية المنسوبة إليه في ثلاث حالات:

الأولى: إذا كانت الشبهة قائمة في ركن من أركان الجريمة، كمن أخذ خفية مالًا له وهو يعتقد أنه مال الغير، فإنه لا يعاقب على السرقة حدًّا ولا تعزيرًا؛ لانعدام ركن من أركان الجريمة، وهو كون المال مال الغير.

الثانية: أن تكون الشبهة قائمة في انطباق النص المحرم على الفعل المنسوب للمتهم، فمن تزوج بلا شهود أو بلا ولي، أو تزوج زواج متعة، لا يعاقب حدًا ولا تعزيرًا باعتباره زانيًا؛ لأن العلماء اختلفوا في هذه الأنكحة، فأحلها بعضهم وحرمها البعض الآخر، وهذا الاختلاف معناه الشك في انطباق نص الزنا على هذه الأفعال، ومن ثَمّ تجب تبرئة المتهم من الجناية المنسوبة إليه.

الثالثة: أن تكون الشبهة قائمة في ثبوت الجريمة، فإذا شهد شخصان على آخر بأنه شرب خمرًا، ثم عدلا عن شهادتهما ولم يكن هناك دليل آخر، درئ الحد لشبهة صدق الشاهدين في عدولهما، وبرئ المتهم مما نسب إليه، وإذا نسب إلى شخص يُجَنُّ ويفيق أنه ارتد أو سرق، ولم يعلم إن كان ارتكب الجريمة وقت الإفاقة أو وقت الجنون، درئ عنه الحد؛ لشبهة عدم التكليف، وبُرِّئَ مما نسب إليه.

وفيما عدا هذه الحالات الثلاث فإن تطبيق القاعدة إذا أدى لدرء الحد فإنه يؤدي في الوقت ذاته إلى استبدال التعزير بالحد أيًّا كان مصدر الشبهة، كمن يسرق باب المسجد يدرأ عنه الحد لشبهة عدم الحرز ولكنه يعزر، وإذا نسب إلى شخص سرقة مثلًا، واشتبه فيما إذا كان بلغ الحلم أم لم يبلغ، درئ عنه الحد، وعزر على ما نسب إليه.

ومن يقر على نفسه بجريمة من جرائم الحدود ولا دليل عليه إلا إقراره يحد بإقراره، فإذا عدل عن إقراره كان عدوله شبهة تدرأ الحد، ولكنه يعزر بدلًا من عقوبة الحد (7).

فالقاضي يجب عليه أن يدرأ الحد عند أدنى شبهة، ودرء الحدود في الشبهات يثبت أن الشريعة لم تكن متشوفة إلى إقامة الحدود على الناس خلافًا لما يقوم به الغلاة اليوم من التسرع في إقامة الحدود ظنًّا منهم أنهم يطبقون شريعة الله تعالى، فينبغي للقاضي أن يسأل المجرم أسئلة منوعة لعله يصل إلى شبهة تدرأ الحد، لا أن يقرره ويحقق معه حتى يقيم الحد عليه.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

الحلقة الثانية هنا

=========-

(1) الفقه الإسلامي وأدلته 7/5307 - الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 134)

(2) حديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" أخرجه السمعاني كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 30) ونقل عن ابن حجر أنه قال: "في سنده من لا يعرف ".

(3) حديث: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم..." أخرجه الترمذي (4 / 33) من حديث عائشة، وضعفه ابن حجر في التلخيص 4 / 56

(4) ابن عابدين 3 / 149، والأشباه والنظائر لابن نجيم 142، والقوانين الفقهية 347، والأشباه والنظائر للسيوطي 122، والمنثور في القواعد 2 / 225، وروضة الطالبين 10 / 92، 93، وكشاف القناع 6 / 96- الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 135) - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي (1/ 208)

(5) مصنف ابن أبي شيبة 29058

(6) شرح فتح القدير ج4 ص139

(7) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (1/ 215)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين