مدخَل لتقارب الرؤى حول الإعلام والإعلام الإسلاميِّ (5)

كلمات من وحي المقاصد والمصالح

على النقيض من العلوم الطبيعية يقتضي التعامل مع العلوم الإنسانية والاجتماعية - وعلم الإعلام منها - مراعاة تعدد وجهات النظر حتى في صياغة المفاهيم المحكمة للمصطلحات (1)، ومن باب أولى في صياغة معايير التوصيف كما في حالة الإعلام الإسلامي. 

من قواعد ضبط التوصيف بكلمة إسلامي:

تعدد وجهات النظر يكتسب قيمته عند ضبط التوصيف بقواعد تشير إليها العناوين المبوّبة الآتية:

(١) لا ينفي تعدد وجهات النظر أهمية منهجية الدراسة.

(٢) التمييز في التعامل مع تعبير إعلام إسلامي بين الإعلام المتطور بمضامينه ووسائله، عبر جهود بشرية تصيب وتخطئ، والإسلام القائم على ثوابت من الوحي، واجتهادات فكر بشري يصيب ويخطئ.

(٣) تجنب رؤى تحمل عنوانًا إسلاميًا وتتناقض مع الإسلام، مثل فرض قيود أو إملاءات قسرية على العطاءات الإعلامية ومن ينتجها ويستهلكها، انطلاقًا من منظور بشري منفصل عن ثوابت الإسلام تسييبًا أو تعنّتًا. 

(٤) واقع الإعلام المعاصر عمومًا أنه يخضع لقيود قانونية أيضًا، لا يؤخذ به حجة لفرض القيود من منطلق إسلامي دون ضوابط منهجية لعملية التقنين وفق متطلبات الجمع بين ثوابت الوحي واجتهادات البشر.

(٥) لا تكتسب أي جهة صلاحية الانفراد بتحديد معايير توصيف الإعلام الإسلامي، وإن حملت تسمية انتمائية إسلامية، ومن شأن ذلك الانفراد أن يجعل الاختلاف حتميًا، أو مبرمجًا سلفًا كما يقال.

(٦) السؤال الحاسم في التعامل مع ما سبق هو: مع نفي العصمة لأي جهة بشرية.. كيف نجمع بين ماهية التوصيف من حيث ارتباطه بثوابت الوحي، وبين مرجعية بشرية تقوم هي على إعطاء المشروعية لعملية الجمع هذه، فضلًا عن أن التعامل مع الحصيلة التي تصل إليها، أي معيار التوصيف، تعامل بشري أيضًا.

تحقيق المقاصد.. من شروط التوصيف:

إن التلاقي بمنظور المقاصد الإسلامية على توصيف الإعلام بالإسلامي ضروري، وممكن بقدر ما يكون حول الكليات دون الانزلاق إلى متاهات اجتهادات تفترق وتتناقض عند التفاصيل. والتلاقي نسبي، دون مستوى الإجماع على أركان الإيمان أو أركان الإسلام مثلًا، بل هو أقرب إلى التلاقي المعروف عن توافق الغالبية العظمى.

ومن أراد المدخل إلى التلاقي المقاصدي إعلاميًا، فلا يغفل عن إشكالية الإعلام كمصطلح، وبالتالي عما يمكن إدراجه تحت عناوين العرف والمصلحة العامة.

من مفسدات ضوابط التوصيف:

من هنا الحديث عن التقارب حول مضامين المعايير وصياغتها وليس عن التوافق عليها أو فرضها، والعناوين الكبرى لإطار التقارب المرجو هي:

(١) التقارب لا يعني توحيد الرؤى، وإن بلغ درجة قريبة من مستوى الإجماع.

(٢) ليست المعايير المطلوبة مواصفات من قبيل المصداقية والنزاهة والعدالة والحرفية المهنية.. فهذه تشملها صلاحيات قطاعات التعليم والتربية والتشريع والتوجيه العام. 

(٣) ليست المعايير قيودًا لضبط مضمون الإعلام وإخراجه.. فالقيود تتقرر في نطاق العلاقة بين الإعلام عمومًا وبين شرعنة الحقوق الإنسانية وحريات الفكر والرأي والتعبير وضوابطها.

(٤) ليست المعايير قواعد عمل ملزمة في مجال تطوير وسائل الإعلام وأدواته.. فهذا الميدان تقني يرتبط بالوسائل الإعلامية تخصصيًا وبتحسين قيمة الإعلام المهنية الحرفية.

(٥) ليست المعايير مصدرًا لحدود عدائية بين إعلام إسلامي وسواه، فالعداء والافتراء وما شابه ذلك من صلاحيات القطاعات الحقوقية والقضائية، ولا يُحسم بصددها إلا في نطاق دولة ومجتمع يستقل فيها القضاء النزيه ويسود القانون المنبثق عن العدالة. 

(٦) التمييز تلقائيًا بين إعلام إسلامي وسواه هو القيمة الحاسمة في اكتساب المعايير قيمتها التوجيهية نتيجة قوة ذاتية في منطق المضمون وسلامة الصياغة.

تجنبًا للإطالة يكفي الوقوف عند النقطتين الخامسة والسادسة فقط بشيء من التفصيل: 

مراعاة الآخر:

غالبا ما يُسوَّغُ تصنيف الآخر إعلاميًا بالعدو بغلبة الجانب السلبي في تعامل الآخر مع الإسلام والمسلمين وقضاياهم، وما بلغه من تراكم ألوان الجهل والافتراء والعداء. 

لا يلغي ذلك المصلحة الذاتية في عدم تغليب العداء للآخر في إعلام إسلامي؛ إذ يصبح آنذاك شبيهًا بما يرفضه وينتقده. والمطلوب بدلًا من ذلك إيجادٌ ذاتيٌّ قويمٌ يراعي أهمية التفاعل الإيجابي على صعيد العلاقات بالآخر، دون التقاعس عن بيان موضوعي لعدائه ومخاطره وما يسببه ذلك من أضرار ذاتية وعامة.

إن محور الإعلام هو التواصل من وراء مختلف الحدود والفواصل، ولهذا يتطلب توصيفه بالإسلامي ما يلبّي القناعات الذاتية من جهة، وكذلك ما يلبّي من جهة أخرى احتياجات التوجيه الإيجابي للقواسم المشتركة مع الآخر من داخل الطيف الإسلامي، أي في العلاقات البينية وهي متشعبة، وكذلك في العلاقات الأوسع نطاقًا، وهي متشعبة أيضًا، وتشمل أطراف العيش المشترك في بلد واحد ثم عمومًا على ظهر كوكب مشترك.. هذا دون إغفال شرط الندية في العلاقات، أي الحرص على تجنب أي أثر لمعادلة الهيمنة والتبعية.

وتزداد أهمية مراعاة الآخر في الإعلام الإسلامي باطراد نتيجة التطورات الجذرية في عالم الاتصالات، مثل زوال مفعول حواجز تعدد اللغات بتقنيات الترجمة، أو زوال مفعول الحدود والفواصل الجغرافية بتقنيات انتشار المعلومة شبكيًا وفضائيًا، حتى النشرة الإعلامية الداخلية في نطاق مؤسسة أو تنظيم أو دائرة رسمية، أصبحت مما يمكن الاطلاع عليه من جانب عدد كبير من البشر عمومًا.

كما ازدادت موجبات مراعاة العطاءات الإعلامية للتعامل مع الآخر، مع ازدياد اتساع دائرة انتشارها نوعيًا، بتعدد فئات المتلقّين / المستهلكين، وهنا يفرض توصيف الإعلام بالإسلامي؛ مراعاة قواعد إسلامية معروفة من قبيل التزام الحكمة وحسن الموعظة وشمول العدل وغيرها، وهذا ما يسري في التعامل مع الناس كافة، بغض النظر عن معتقداتهم وتصوراتهم وأجناسهم وممارساتهم (2). 

التمييز التلقائي:

أما القول بمعايير تصلح للتمييز التلقائي فالمقصود به تمييز الإعلام أنه إسلامي من خلال انعكاسه عند المتلقي عبر مواصفات عامة مقنعة متوافقة مع التوجه العام السائد لتقويم المضامين الإعلامية ومعالم الإخراج. هنا ينزل تعبير التوجه العام المعاصر منزلة تعبير العرف في ثروتنا اللغوية العربية الإسلامية. وكل ما يتعلق بالبحث عما يتوافق مع العرف أو التوجه العام.. يعني عادة اتباع طريق أصعب في بحث منهجي، وهو في هذا البحث مما يستمده الباحث من واقع آني قائم ومن منطق بدهي سائد يسري على الإسلامي وسواه من قطاعات الإعلام.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

الحلقة الرابعة هنا

======-

(1) انظر: عبد الوهاب المسيري، "اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود"، ص ١٩٦ وما بعدها، حول الاختلاف بين مصطلحات العلوم الطبيعية ومصطلحات العلوم الإنسانية والاجتماعية على خلفية العلاقة بين الدال والمدلول، دار الشروق، ط١، ٢٠٠٢م. 

(2) النصوص الشرعية من الآيات والأحاديث، وبعض أقوال الصحابة كأمثلة على فهمهم وتطبيقهم للنصوص، توجِد كثيرًا من الأسس التشاركية في التعامل مع الآخر من جنس الإنسان، مثل (ولقد كرّمنا بني آدم) أو (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) أو (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) أو "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".. وغيرها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين