مدخَل لتقارب الرؤى حول الإعلام والإعلام الإسلاميِّ (4-6)

من واقع توصيف الإعلام بالإسلامي

قد يستسهل بعضنا الأمر بقوله: "لنكن حياديين.. ولنقل بالإعلام دون مثل هذا التوصيف أصلًا.." ولا يكفي ذلك؛ إذ نتعامل مع واقع ينتشر فيه استخدام هذا التعبير، فلا بد من التعامل الهادف معه إيجابًا أو سلبًا، على أن يكون منهجيًا وليس عشوائيًا. والواقع يقول: إن تعبير إعلام إسلامي مستخدم على نطاق واسع، ولكن دون وجود تعريف منهجي بصورة قاطعة مانعة بميزان خصائص التواضع على المصطلحات. 

تناقض تمييع الضوابط مع الإرث المعرفي: 

الحديث هنا عن كلمة التوصيف بإسلامي، ولا يصح الانزلاق إلى التسييب في التعامل معها كتوصيف، كأن لا نراعي مراعاة كافية عوامل تمييز الألفاظ بعضها عن بعض، بل نتناقض آنذاك مع الإرث المعرفي الذاتي، ومنه مسيرة توليد المصطلحات باجتهاد علماء مسلمين أقدمين. وكان أول ما اعتُمد ذلك في نطاق علوم الحديث، ووضعت مؤلفات عديدة تتناول المصطلحات في شتى الفروع العلمية، فكان ممن ألّف في "المصطلح" كل من ابن حيان والفارابي والخوارزمي والجرجاني، وغيرهم كثيرون وذلك قبل قرون من استقرار علم المصطلح قائمًا بذاته في مسار النهضة الأوروبية الحديثة (1).

ولا يصح القول: من المؤسف أن ما صدر من محاولات حديثة لتعريف الإعلام الإسلامي لم يوصل إلى صيغة مستقرة أو ما يوصف في أدبياتنا بالجامع المانع، فهذا هدف غير مفروض وربما غير ممكن أصلًا.. ولكن من المؤسف غلبة انتشار رؤى متباينة بشأن التوصيف لا تكتسب صفة المنهجية.

مثال مفردات التعبير:

انتشر القول بوجود إعلام إسلامي انطلاقًا من إحساس عام عند المنتج غالبًا، أو إحساس من صنع الأمل والتبسيط عند المستهلك، بمعنى القارئ والسامع والمشاهد؛ إذ يقال: هذا إعلام إسلامي عندما يتردد ذكر آيات وأحاديث أو مقولات السلف وعلماء مسلمين، أو حتى عند تخطيط كلمات من هذا القبيل فنيًا ونشرها بوسائط حديثة، وهذا إحساس له قيمته الذاتية ويعتمد على نمط معين في التفكير والتعبير. 

ولكن.. لو اجتهد فرد أو جهة ما إعلاميًا، كتابةً أو تصويرًا أو سوى ذلك، فيما يفيد حماية البيئة مثلًا، دون الالتزام بالنمط المذكور في التفكير والتعبير، وفي الوقت نفسه دون انتهاك أحد مقاصد الإسلام الكبرى - بل قد يخدمها - فهل يندرج ذلك العطاء الإعلامي تحت عنوان التوصيف بالإسلامي أم لا؟

مثال التسميات الإسلامية:

انتشر الحديث عن وجود إعلام إسلامي انطلاقًا من إحساس عام عند المنتجين والمستهلكين أن الإعلام في هذه المجلة أو تلك وعبر هذا البرنامج التلفازي أو ذاك، وكذلك في عالم الشبكة العنكبوتية؛ يحمل وصف إسلامي لأن الوسيلة الإعلامية أعطت نفسها أو تعطي بعض موادها، تسميةً لها معنى إسلاميًّا، وليكن مثلًا الكلمة الطيبة، نور على نور، وما شابه ذلك.

ولكن.. أين المعايير المرجعية الفاصلة بين انعكاس التسمية في المضمون كما ينبغي فعلًا، وبين غياب ذلك نتيجة تناقض المضمون مع الإسلام أصلًا، تسييبًا أو تشدّدًا؟

مثال إعلام الهوية:

بعض الكتاب مسلمون يؤكدون أنهم يعبرون عن رؤيتهم للإسلام فيما ينشرون، ولكنهم مصنَّفون عند كثير من الجماهير بأنهم من خصوم الإسلام والمسلمين! ويوجد كتّاب من غير المسلمين، معروفون بأنّهم يتبنّون قضايا عديدة من منظور مصالح إسلامية، حضارية وثقافية غالبًا، ومن منظور منصف عقديًا. وهنا ألا ينبغي في تقويم العطاء الإعلامي لتوصيفه بصورة سليمة، أن نعمل للجمع أو التكامل بين مفعول الانتماء والهوية ومفعول القيمة الذاتية للمضمون؟

هذه أمثلة من قائمة طويلة، مدار الكلام فيها غلبة مفعول المظاهر على المضامين، ولا يعني هذا التهوين من شأن اختيار المظاهر السليمة وفق الحاجة إليها، إنما الحديث هنا عن معايير لا تكفي المظاهر لتحديدها.

عائق "أيديولوجي" خارجي مرفوض:

أمر آخر.. عند التعامل مع توصيف إسلامي تحديدًا توجد عوائق من خارج نطاق من يؤيد ذلك من منطلقه الإسلامي ذاتيًا، أي عوائق صادرة عمّن يرفض ذلك من رؤيته التي ترفض ابتداءً قيمة المنطلق العقدي وما يتفرع عنه. 

غالبًا ما يوضع الاعتراض على توصيف الإعلام بالإسلامي في صيغة متطابقة مع الاعتراضات على كل توصيف يشمل تعبير إسلامي في قضايا العلاقات بين البشر، السياسية وغيرها، وهي صيغة اعتراض تستخدم تعبير أيديولوجيا تهمةً غير قابلة للنقاش بمنظور من يطلقها، أي أنه يغلق على نفسه باب الحوار أصلًا.. وهذا بحد ذاته سلوك أيديولوجي مرفوض، وفق ما يقول به مستخدمو كلمة أيديولوجيا نفسها، من أنها تتضمن إقصاء الآخر. 

الجدير بالتأمّل أن لفظة أيديولوجيا هذه معرّبة، والترجمة الأقرب للصحة هي كلمة عقائدية، ولعل تجنبها عند المعترضين باللغة العربية هو نتيجة تقدير مسبق لردود فعل رافضة من جانب العامة أو غالبيتهم، فلفظة عقائدية مثيرة للحساسيات في أوساط الغالبية من المتدينين من أصحاب الديانات السماوية. 

إن المعترضين بهذا الأسلوب على توصيف إسلامي يقعون هنا في تناقض مع ما يقولون به بشأن تحكيم الغالبية، ووجه التناقض هو في انتقائيتهم التي تربط قبول التحكيم بتوقع موافقة الغالبية على أطروحات صادرة عن رؤاهم الذاتية هم فقط. 

ضبط مراجعة الإعلام الإسلامي:

هذا الأمر يتطلب في توصيف الإعلام بالإسلامي مراعاة جانبين متكاملين لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

الأول: ينبغي التأكيد هنا أن مراجعة الإعلام الإسلامي - مثل مراجعة الفكر الإسلامي - مرتبطة مباشرة:

- بكونه إسلاميًا بمعيار المقاصد قطعية الدلالة وحيًا.

- وكونه قويمًا وفق القواعد الأصولية الكبرى.

-وكونه صائبًا بالميزان البشري لتلاؤمه مع مصالح بشرية ومتطلباتها واحتياجاتها وما يستجدّ منها.

أما عداء التوصيف بالإسلامي لمجرد العداء، مثل وصفه بالأيديولوجية على سبيل الاتهام، وبالتالي القول إنه انتهى مع انتهاء عصر الأيديولوجيات - وهي مقولة غير منضبطة أصلًا بدراسات رصينة - فذاك من الشطحات التي لا تصمد أمام ما يقول به منطق فلسفي عمومًا أو فكر بشري منصف (2). 

الثاني: مراعاة الآخر:

من الموضوعية التأكيد أيضًا، أن صلاحية المعيار المطلوب في توصيف عطاء إعلامي بالإسلامي: 

- لا ترتبط فقط بالمنتج والطرف المستهدف، ولا سيما عندما ينطلقان من منطلق واحد من حيث المعتقد والرؤية.

- بل ترتبط أيضًا بالطرف الثالث، أي من يطلع على تلك العطاءات، فيستفيد أو يتضرر، بالمنظور الحقوقي والقيمي والقانوني والأدبي المعنوي، وتجب مراعاته في البحث عن معيار مناسب للتوصيف، كما يأتي لاحقًا.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

الحلقة الثالثة هنا

===-

(1) بدأت مسيرة توليد المصطلحات باجتهاد علماء مسلمين أقدمين تحت عنوان المواضعة، بمعنى أن يتواضع المتخصصون على مفهوم محدد للكلمة في نطاق اختصاصهم فتصبح لها منزلة المواضعة / الاصطلاح. وانظر لمزيد من التفصيل: د. محمد أبحير، "نشأة علم المصطلح عند العرب والغرب"، مجلة المحجة - فاس، العدد ٤٧٥، آذار/ مارس ٢٠١٧م.

(2) انظر للكاتب "تحرير المعرفة – رؤية إسلامية لمسيرة المعرفة على أمواج الفلسفة"، كتيب يتوافر في ملف شبكي في الموقع الشخصي "مداد القلم": http://midadulqalam.info/articles/52_كتاب-تحرير-المعرفة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين