مدخَل لتقارب الرؤى حول الإعلام والإعلام الإسلاميِّ (3-6)

معايير مطلوبة لتوصيف الإعلام بالإسلامي

لا يوجد تعريف اصطلاحي مستقر لكلمة إعلام، وبالتالي لما يتفرع عنه، بل نتحول واقعيًا إلى مستوى التوصيف، مثل توصيف قطاع من الإعلام بالإسلامي. 

معايير للتوصيف بدلًا من التعريف:

لا ينفي ذلك الحاجة إلى معايير محددة للتوصيف، ونجد في واقع الإعلام معايير مستخدمة فعلًا، منها على سبيل المثال: 

- عند اعتماد الوسيلة الإعلامية معيارًا، يُصنف أو يوصف الإعلام بأنه مطبوع أو مصور أو صوتي أو متعدد الوسائل، وتقليدي أو إلكتروني.. وهكذا. 

- عند اعتماد جهة الإصدار والنشر معيارًا، نميز مثلًا بين إعلام رسمي باسم دولة أو باسم منظمة دولية، وتجاري باسم شركة أو مؤسسة أو نقابة أو تنظيم اقتصادي، وحزبي.. ورياضي.. وهكذا.

تمييز توصيف الإعلام بالإسلامي:

توجد أمثلة معروفة أخرى من هذه المعايير للتصنيف، إنما القصد من تعداد بعضها هنا هو القياس على ذلك لتأكيد رفض العشوائية في إطلاق توصيف إسلامي على قطاع من الإعلام، المطلوب التقارب حول معايير تؤدي إلى:

(١) تميز ماهية الإعلام الإسلامي عن سواه من الإعلام.

(٢) تميز ماهية الإعلام الإسلامي عن ميادين إسلامية أخرى قريبة منه، كالأنشطة الدعوية والتربوية والإبداعية، وسبقت الإشارة إلى أنها - على النقيض من ذلك - سيطرت على محاولات تعريف الإعلام الإسلامي حتى الآن، ولا يوجد ما يستدعي ذلك شرعًا، أو فكرًا، أو مصلحة عملية، فضلًا عن جانب المنطق والمنهجية. 

(٣) استناد تلك المعايير إلى قدر كاف من الموضوعية المقنعة، لضمان انتشاره وظهور هشاشة ذرائع الاعتراضات عليها.

(٤) صياغة تلك المعايير صياغة مبسطة لتيسير استيعابها، وبالتالي الالتزام المرجو به من جانب من يمارس إعلامًا إسلاميًا، والقبول بها وبالتالي اعتمادها عند التفاعل مع الإعلام الإسلامي إيجابًا أو سلبًا. 

توصيف نوعي بمعيار مركب:

بدلًا عن العشوائية الحالية وراء انتشار تعبير الإعلام الإسلامي؛ يُفترض منطقيًّا أن يكون في معايير هذا التوصيف أساس نوعي مركّب من عناصر منبثقة عن الإسلام نفسه، كما أنزله الله، تؤدي الغرض منها بقدر تأثيرها الفعلي على صعيد القبول بعطاءات إنتاج إعلامي إسلامي، وأهم تلك العناصر:

(١) المعتقدُ: انتماءً مشتركًا.. وهذا ما ينطلق من الثوابت الكبرى وحيًا.

(٢) التصور: اجتهادًا بشريًّا.. وهذا ما ينعكس في التعددية النوعية ضمن نطاق المقاصد الكبرى.

(٣) المنهج: صيغةً تطبيقيّة.. وهذا ما ينطوي على التنافس فكرًا وإخراجًا.

بقليل من التأمل نجد أن هذا الافتراض لمعيار التصنيف يسري على أرض الواقع بصيغة مشابهة، حسب كل حالة بحد ذاتها على التوصيف الإعلامي تحت عناوين أخرى تندرج في خانة معتقدات وتصورات ومناهج، فيقال تبعًا لذلك: هذا إعلام ليبرالي أو علماني أو ديمقراطي، إلى آخره. 

بين توصيف منهجي وتوصيفات عشوائية:

لا يوجد واقعيًا توافق كاف على معيار نوعي من هذا القبيل لتصنيف الإعلام، بل تستخدم توصيفات نوعية أو انتمائية عشوائيًا، وأحيانًا مع كثير من التناقضات الصادرة عن مفعول صراعات ومواجهات فكرية وسياسية وحضارية وثقافية (1). 

وتزداد إشكالية التوصيف بكلمة إسلامي بالذات تعقيدًا عند ربطه بعوامل تتعدّى أهداف التوصيف أو تفقده مغزاه، وقد تتناقض مع الدلالة المطلوبة من خلاله. ولئن كان لتلك العوامل قيمة ذاتية ما، فالمهمّ هنا عدم انضباط اعتمادها في توصيف الإعلام بالإسلامي (2)، ومن ذلك مثلًا: العامل الجغرافي؛ إذ يُستخدم لوصف كل إعلام يصدر في المنطقة الإسلامية جغرافيًا بالإعلام الإسلامي (3)، سيان ما هو اتجاه المنتج نفسه، وقد يكون من إعلام رسمي يمثل سلطات استبدادية تعادي الإسلام أو تعادي الفكر الإسلامي.

للتنبيه: يظهر تناقض مشابه عند الحديث بمنظور جغرافي عن إعلام غربي أو أوروبي على سبيل المثال.

محاولات تأصيل التوصيف الإسلامي:

يوجد من يربط الإعلام الموصوف بالإسلامي بنظرة تأريخية من باب الحرص على ربط كل شيء معاصر بممارسات - ولا نقول هنا: مقاصد أو قواعد - من العهد الأول.

من اجتهادات الباحثين هنا اعتبار الشعر من جنس الإعلام في صدر الإسلام، ويمكن استنباط بعض الأخلاقيات وربما بعض القواعد من دور الشعر في تلك الفترة، ولكن يتداخل ذلك بمحددات عالم الأدب، وقد يتعدّى عليها.

والواقع أن الشعر القديم والحديث يدخل في خانة مادة إعلامية، ولكن لا يصح اعتباره مصدرًا لاستنباط معالم مميّزة لقطاع الإعلام.

ويوجد من سلك طريقًا مشابهًا من مداخل أخرى، كاستحضار الدكتور صلاح عبد الرزاق قصة الهدهد مع النبي سليمان عليه السلام، ليقول: "لعل أوضح إشارة قرآنية لمهمة الإعلام الإسلامي وردت في سياق عملية نقل الأخبار؛ ما ورد عن الهدهد الذي قال للنبي سليمان عليه السلام: {وجئتك من سبأ بنبأ يقين} [سورة النمل: آية٢٢]" (4).

هذه الآية وكذلك آية: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا} [سورة الحجرات: آية٦] وآيات عديدة أخرى تدعو إلى الصدق والكلمة الطيبة والقول السديد، وتحذر من الإفك والبهتان والافتراء.. هذه آيات يمكن الانطلاق منها في صياغة بنود ميثاق قيم وسلوك، يصلح للإعلام وقطاعات أخرى. 

ودون الاستغراق في قصة الهدهد يمكن القول: إنها أوسع مدلولًا من تخصيصها بالإعلام، بل قد يكون المدلول أقرب لميدان الاستخبارات.

تغييب مفهوم الإعلام في توصيفه بالإسلامي:

إن ما يُعتبر تناقضًا فيما سبق ناشئ عن تغييب الارتباط بين كلمتي إسلامي كتوصيف وإعلام كموصوف، فهذا الارتباط شرط من شروط صلاحية المعايير المطلوبة لتوصيف إعلام إسلامي، بحيث: يتميز عن إعلام آخر.. كما ينبغي أن يتميز عن عطاءات أخرى إسلامية، ولكنها ليست من الإعلام، فلكل منها شروط موضوعية، ومن شروط تمييز عطاءات إعلامية ما يستند إلى حرفية المهنة ونوعية المضمون وتقنية الإخراج.

للتنبيه: يمكن أن يظهر تناقض مشابه عند الحديث بمنظور فلسفي غربي عن إعلام تنويري مثلًا أو إعلام حداثي.

التوصيف بالإسلام وليس بجهة إسلامية:

توجد عوامل أخرى تسبب غموض التوصيف، يغني التفصيل السابق عن التفصيل فيها، والمهم بيان أن توصيف الإعلام بالإسلامي لا يستقيم عند ربطه بالعامل الجغرافي دون جدوى، أو المعرفي التاريخي تأصيلًا، كذلك لا يستقيم عند ربطه بتعدد الاتجاهات المعاصرة تحت عنوان اتجاهات إسلامية، فالخلافات بغض النظر عن مشروعيتها أو عدم مشروعيتها تمنع بحد ذاتها من اعتماد ما تراه جهات رسمية كوزارات الأوقاف، وشبه رسمية كمؤسسات مرتبطة بالسلطات، أو تنظيمية اجتهادية من حركات وأحزاب.. بحيث يكون مصدرًا لاستنباط عناصر معيار منضبط لتوصيف الإعلام بالإسلامي.

للتنبيه: شبيه ذلك يمكن رصده أيضًا في حالة توصيف إعلام بالكنسي / المسيحي لتمييزه عن سواه.

ومن المهم التأكيد أن عدم ربط التوصيف بجهة ما لا ينتقص من حق أي جهة في ممارسة الإعلام واكتساب توصيف يستند إليها كجهة إصدار، كإعلام الوزارة الفلانية أو الحزب الفلاني أو الاتحاد أو الجماعة، وما إلى ذلك من هيئات ومؤسسات.

خلاصة:

نعود إلى المعيار النوعي المذكور آنفًا لتوصيف الإعلام بالإسلامي - وقياسًا على ذلك بالشيوعي والعلماني.. إلى آخره - كمركب من المعتقد والتصور والمنهج، ونضيف: إنّ التوصيف المطلوب لا يحقق هدفه دون أن تكون له خصائص قريبة - وليس متطابقة - من خصائص التوافق منهجيًا على مفهوم اصطلاحي.

لن يجد تعبير إعلام إسلامي صيغة توصيف مستقرة ما دام استخدامه لا يستند إلى معايير تميز هذا التوصيف تمييزًا مُرْضيا لمن يقوم على إنتاج مادة إعلامية ونشرها، ومقنعًا إقناعًا موضوعيًّا لمستهلكيها والمطلعين عليها من المتخصصين والعامة، بغض النظر عن الرؤى الذاتية الفردية أو الجماعية.

 

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

الحلقة الثانية هنا

=====-

(1) انظر كأمثلة: د. عبد القادر طاش، "الصورة النمطية للإسلام والعرب في مرآة الإعلام الغربي"، شركة الدائرة للإعلام المحدودة، الرياض، ١٩٨٩م. منصور عثمان محمد زين، "الفصل الثالث: الإعلام الإسلامي والفلسفات الأخرى" في كتاب "قضايا وهموم الإعلام الإسلامي"، أحمد مبارك سالم، "الإعلام الإسلامي والمرحلة الراهنة"، ٣/ ٢/ ٢٠١٥م، في موقع طريق الإسلام. وعلى مستوى توظيف الإعلام الدولي (مثاله الصارخ: الأمريكي) في قضايا عدائية، انظر: ناعوم تشومسكي، تعريب: أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط ١، ٢٠٠٣م.

(2) انظر: د. عبد القادر طاش، فقرة "ما هو الإعلام الإسلامي الذي نريد" من مقال بعنوان "ما هو الإعلام الإسلامي" في مجلة "الداعي"، تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٠٩م، على رابط "دار العلوم" الشبكي: http://www.darululoom-deoband.com/arabic/magazine/tmp/1326688400fix4sub1file.htm

(3) محمد كرم سليمان من الباحثين الذين يربطون توصيف إسلامي للإعلام بالنظرة الجغرافية، نقلا عن: حردان هادي الجنابي، "الإعلام الإسلامي الإلكتروني"، ص ١٢، دار العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠١٥م

(4) د. صلاح عبد الرزاق، "مقدمة في الإعلام الإسلامي". http://www.al-iraqnews.com/news/studies/25770-واع-مقدمة-في-الاعلام-الاسلامي-دراسات-ج1.html وانظر أيضا: د. محمد عجاج الخطيب، "أضواء على الإعلام في صدر الإسلام"، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط١، ١٩٨٥م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين