مدخَل لتقارب الرؤى حول الإعلام والإعلام الإسلاميِّ (2 -6)

التعدّي على أسس مفهوم الإعلام

أصبح لحاق عموم المصطلحات بالتطورات التقنية المتسارعة، من الظواهر المعاصرة التي لم تتضح أبعاد تأثيرها في أرض الواقع بما فيه الكفاية.

تآكل تمييز قطاع الإعلام:

هذه ظاهرة تكتسب في ميدان الإعلام بالذات أجنحة إضافية إذا صح التعبير؛ إذ نرصد كيف ينتشر مفعول تلك التطورات المعقدة السريعة في ميادين أخرى مجاورة لميدان الإعلام، انتشارًا يسهم في تسارع تآكل المعالم المميزة للإعلام عن سواه، مثل سوق الإعلانات التجارية، وبتعبير آخر: لم يعد هناك ميدان إعلامي مستقل قائم بذاته.

التعدي على وظيفة الإعلام:

إذا كان تأثير القوة المالية من وراء الإعلانات في وسائل الإعلام معروفًا بمعالمه الكبرى على الأقل، فلا يمكن القول بذلك عن مدى تأثير مضامين الإعلانات في نوعية المعلومات ومكونات الرأي لدى الفرد، ولا سيما عند بداية نشأتها لدى فئات أعمار الأطفال والناشئة، وهي أهم مجالات وظيفة الإعلام الأولى. 

وكما يقول الدكتور بابكر مصطفى: "كما يؤثر الإعلان في ترويج السلع والخدمات، فإنه يُسهم في نشر القيم والاتجاهات الجديدة، ويدفع المتلقي إلى تقبُّل أفكار أو أشخاص أو منشآت مُعلَن عنها، كما يعمل على تغيير العادات والأذواق وسط مستقبليه. وحينما يستقبِل مجتمعٌ ما إعلانات تم إنتاجها من قِبَل ثقافة مغايرة لثقافته، فإن الإعلانات تحمل معها قيم ثقافتها، وقد تكون عاملًا من عوامل التغيُّر الاجتماعي" (1).

تداخل اندماجي بين قطاعات متعددة متقاربة:

هذه صورة تكرّر ما سبق رصده في العقود الماضية عند خطوط التماس بين الفنون المختلفة والإعلام، وهو مما أوجده مثلًا انتشار المسارح والمعارض والمتاحف والمهرجانات، بل يمكن رؤية اختلاط تأثير الفن بوظيفة الإعلام حتى في تبادل بطاقات التهنئة وتصاميمها؛ فجميع ذلك وأشباهه -كالإبداعات الأدبية- يقتحم حدود الأهداف والوسائل التي بدت للوهلة الأولى وكأنها محصّنة أو خاصّة بعالم الإعلام، على أساس جوهر خصائصه التي تدور حول محور صناعة الرأي العام أو التعبير عنه. 

أصبح هذا التداخل الاندماجي، وبالتالي التأثير المتبادل بين ميادين متجاورة -أحدها الإعلام- أعمق نظريًا وأوسع تطبيقًا من مجرد الإحاطة به وبتفرعاته، ناهيك عن قابلية ضبط مساراته على أرض الواقع، وليس في عالم الرؤى والمناهج والمصطلحات فحسب.

أبعاد زوال خطوط التماس:

الجيل الذي ما يزال عالم الإعلام عمومًا تحت إدارة نخب تنتمي إليه؛ سبق وعايش على امتداد عدة عقود مضت تنامي تأثير منتجات عالم الفنون والتربية، عبر ابتكار شخصية "ميكي ماوس" الكرتونية واقتحامها شاشة الأفلام الصامتة لأول مرة سنة ١٩٢٨م. ويمكن لجيل الشبيبة الذي بدأ يتبوأ مواقع صناعة إعلام المستقبل، أن يقيس على ذلك التأثير الكبير وأشباهه من عالم الأمس، لاستشراف ما يُنتظر في عالم اليوم والغد القريب من تأثير أكبر وأعمق وأوسع من ذلك بأضعاف مضاعفة، كنتيجة لما تجسّده تطورات يعبر عنها المثال الآتي مع بيان عناصره:

(١) اختيار قصة من قصص الأطفال.. (٢) حول شخصية تاريخية أو حديثة مبتدعة.. (٣) وإخراج مغزاها في صيغة لعبة شبكية.. (٤) تستهوي الأطفال والناشئة.. (٥) وتعتمد على أداة تقنية / إلكترونية حديثة، أصبح بمقدور تلك الفئة من الأعمار التعامل معها.. (٦) بينما لا يكاد يعلم أهاليهم وأساتذتهم حتى بالخطوط العريضة حول وجودها ومفعولها.. (٧) هذا.. ناهيك عن تنامي إمكانات التأثير بأضعاف مضاعفة عبر التطوير المنتظر لاستخدام أدوات التقنيات الفراغية / الهولوجرافية.

مفعول العطاءات الاندماجية:

إن هذا التطور المتداخل والمتجدد والمتسارع يضع الحديث عن الإعلام عمومًا -والإعلامُ الإسلامي فرع منه- أمام أسئلة عديدة، منها: 

هل يمكن - حسب المثال السابق - عزل هدف متعة اللعب، وسواها من دوافع اختيار القصة فإخراجها فتسويقها تجاريًا، عن أهداف الإعلام وتأثيره في تكوين الشخصية الفردية، تعلّمًا (المهمة الإخبارية) ومعرفةً (خلفيات الخبر والحدث) ووعيًا (التعليل والتحليل) وبالتالي الإسهام المبكّر في صناعة الرأي الفردي والجمعي، وترسيخه في طريقة تفكير ومنهج سلوك نمطيين.. (وندع هنا مهمة التعبير عن الرأي بموازاة صناعته)؟ 

ألا يتفوق المفعول الإعلامي الانسيابي المتسلل، عبر لعب قصصية للأطفال والناشئة، على مفعول كثير من العطاءات الإعلامية، بصيغها المألوفة؟ أين سيصل ذلك المفعول المتسلل بهدوء مخيف، عبر محطات صناعة المستقبل وأجياله القادمة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أيضًا تفاقم ما يسمّى حديثًا الإدمان على الشبكة وألعابها ووسائل التواصل وتجلياتها؟!

لا نخوض هنا في شؤون التشخيص والعلاج في قضية تربوية اجتماعية إلى جانب تماسّها مع الإعلام، إنما نوجد تساؤلات أخرى ما بين السطور: 

ما جدوى التعامل مع الإعلام في نطاق مفهوم اصطلاحي بمضمون محدود، لا يشمل ما نرصده من ممارسة وظيفة الإعلام الأساسية ولكن تحت عناوين أخرى؟

هل يمكن التغافل عن ارتباط هذا التساؤل بالبحث عن مفهوم أو رؤية أو عن صيغة تطوير، خاصة بإعلام إسلامي؟

الدراسات ما بين العناوين والمضامين:

يوجد من حاول أو يحاول طرق هذه الأبواب وما يتبع لها بالرصد والبحوث والدراسات الهادفة (2)، إنما لم يصل ذلك - مع عدم التهوين من قيمته الذاتية قطعًا - حتى إلى حسم تعدد التسميات لما يظهر من وسائل، بين من يطلق عليها توصيف "إعلام جديد" أو "إعلام شبكي" أو "إعلام إلكتروني" أو "إعلام حديث".. وإذ يشير الباحث خالد الحروب بهذا الصدد إلى أن كل جديد سرعان ما يصبح قديمًا، يشير عمليًا إلى أن التطور التالي يسبق الكتابة عما سبقه، ويضيف: "الواقع يشير إلى أن الحدود بين الإعلام التقليدي والجديد تتداخل والوظائف تتكامل، بحيث يصعب رسم خطوط صارمة تفرق بين الفضاءين" (3).

نبقى في حدود المطلوب من ذكر مثال إخراج قصة أطفال في صيغة لعبة إلكترونية آنفًا، وما يطرحه علينا من وراء التداخل بين ميادين عديدة لصناعة الإنسان، للتنبيه على أحد وجوه الإشكالية المذكورة حول صياغة مفهوم الإعلام. لقد كانت الفترة الزمنية لكلّ تطور كبير موزعة على عدة أجيال، فأصبح جيل واحد يشهد بين فترة الشباب والهرم (مثلًا) انتشار الشبكة العنكبوتية وتطبيقاتها وتشابكها مع سواها في تطورات تقنية وإلكترونية كبرى أيضًا من عوالم التلفزة الفضائية وآليات التواصل الحديثة. والنتيجة: 

إن ما نعرفه سابقًا من عناصر تعريف اصطلاحي للإعلام، أصبح محض جزئيات صغيرة من طرح موسوعي حافل بمضامين متنوعة متطورة، ولا يزال هذا التوسع والتنوع مستمرًا بحركة دائبة متسارعة، بأطرها الكمية والنوعية والزمنية (4).

تبسيط التعريف وسيلة اضطرارية في الدراسات

تترتب على ما سبق أهمية تناول موضوع الإعلام والإعلام الإسلامي دون الاستهانة بحجم القضية وتشعّبها، فنحن قبل الحديث عن التوصيف بالإسلامي نواجه في مسار البحث الاصطلاحي لكلمة إعلام نفسها مهمّة عملاقة، ليس لإيجاد نص المفهوم والتوافق الشامل عليه، فهذا مستحيل، بل لمجرد تيسير الربط بين العناصر المذكورة وسواها في التعامل مع الإعلام ووسائله وتطوراته الذاتية وتطويره في نطاق عالم الاتصالات الحديثة، أي تيسير لغة التفاهم بين الأطراف ذات العلاقة، عند الحديث من زاوية ما عن موضوع يندرج تحت عنوان الإعلام، وتصنيفه، ورسالته، وضوابطه، وما شابه ذلك. 

جديد الأمس قديم اليوم:

هذا بحد ذاته مهمة يتطلب النهوض بها تعاونُ مراكز دراسات بتخصصات متكاملة، وجهودٍ متشابكة دائمة متجددة، تحقق بمنهجيتها وإدارتها واستقلاليتها شروط متابعة تطورات كبرى تمس ميادين بشرية مشتركة، وهذا مع ملاحظة أننا أصبحنا نرصد ظهور الأحدث من تلك التطورات أثناء اشتغالنا بدراسة تطور سبق أن اعتبرناه بالأمس القريب جديدًا لنستوعب أبعاده.. وإذ به يصبح قديمًا قبل بلوغنا الغاية من تلك الدراسة. 

لم يعد ممكنًا حسم موضوع الإعلام اصطلاحيًا حسمًا دقيقًا ومشتركًا.. إنما لا ينبغي اعتبار ذلك هدفًا بحد ذاته، فهو وسيلة لتحقيق غاية، من بين بنودها في هذا البحث السؤال: إذا كان هذا حالنا مع تعريف الإعلام عمومًا، فما الذي ينبغي علينا التركيز عليه عند تخصيص الحديث عن إعلام إسلامي؟

أليس من أخطائنا عند البحث في ماهية الإعلام وتطويره من منطلق إسلامي، التسرع في ذلك الحسم انطلاقًا من جهد فردي أو مؤسساتي محدود، أسفر عن اجتهاد أو توصية حول التوصيف بكلمة إسلامي دون تقدير حجم المطلوب تحقيقه لبلوغ هذه الغاية؟ 

التبسيط ضرورة تقدر بقدرها:

في الواقع نحن في نطاق البحوث والدراسات مضطرون قبل صعود أولى الدرجات نحو تحديد الإعلام الإسلامي، إلى الاكتفاء في محاولة تعريف الإعلام نفسه بتبسيطٍ يجعله دون مستويات ما يُعتمد عادة في دراسة محكمة أو بحث قيّم، وغالبًا ما يجري التبسيط من خلال ذكر بعض المشتركات من بعض اجتهادات سابقة، ونحن نعلم - ويجب أن نعلم - أنها عبارات عائمة الصياغة لا ترقى إلى منزلة تعريف اصطلاحي للإعلام. 

نقول مثلا: الإعلام هو استخدام وسائل التعبير والتواصل، لنشر المعلومة والرأي (5).

بميزان تعريف المفاهيم اصطلاحيًا تبقى هذه العبارة وأشباهها مختزلة، ويترتب على ذلك: عندما نستخدمها أو نستخدم ما يشابهها في مطلع كتاباتنا عن الإعلام الإسلامي اضطرارًا، فذلك ناجم عن غياب مفهوم محكم متوافق عليه، فهذا ما يدفع إلى تجنب الخوض في اختلافات لا نهائية، والاكتفاء بدلًا من ذلك بعبارة مختزلة، للانتقال إلى درجة تالية في البحث. 

بين التوافق والتقارب:

لن يزول هذا النقص، ومن الأهمية بمكان عدم تجاهله، بل المحافظة على وعينا بوجوده، كي تقترن محاولة التقارب - بدلًا من التوافق المحكم - بصدد قواسم مشتركة للتعامل مع الإعلام أو الإعلام الإسلامي بالذات، بمحاولة التعويض عن الاختزال المشار إليه، عن طريق إضافات، منها مثلا: 

(١) محددات ضابطة لتمييز المنتجات الإعلامية عن سواها، وإن اشتركت معها أحيانًا في وسائل نشر متماثلة، كالملفات الشبكية (الإلكترونية).

(٢) محددات ضابطة لتصنيف الوسائل، انطلاقًا من عناصر ترجيحية - مثل كثافة الاستخدام - ما بين إعلامية وأخرى أدبية أو فكرية أو علمية أو تجارية، وهكذا.

(٣) خطوط عريضة توضح مواطن التماس، أو تداخل (ما يسمى حديثًا: وسائل اندماجية) بين عطاءات إعلامية وغير إعلامية، في حالات معينة، مثل نشر إنتاج أدبي في وسائل إعلامية، أو حضور غرض إعلامي في إنتاج فكري أو حتى دعائي تجاري.

طريق وسط بين الاختزال والاستفاضة:

لا يغيب عن الأذهان أننا إذا فعلنا ذلك دراسة وبحثًا سنجد أنفسنا سريعًا قد انتقلنا من تعريف مقتضب - كما هو مطلوب عادة ليتميز المصطلح بذاته عن سواه - إلى شروح مستفيضة، فنبقى داخل دائرة طرح فكري نظري لا يجدي كثيرًا في واقع يتحرك بتأثير عوامل عديدة أخرى، وهو بعض ما نلمسه مباشرة فيما صدر من محاولات لإيجاد تعريف اصطلاحي للإعلام أو الإعلام الإسلامي.

المخرج هو سلوك طريق وسط بين الاختزال والاستفاضة، يسهم في انتشار معالم كبرى لرؤية مشتركة يمكن التقارب عليها وإن كان دون درجة التوافق، ولكن تساعد مثلًا في برامج التأهيل للممارسات الإعلامية، إدارة وإنتاجًا ونشرًا، وتفيد المتأهلين في التعامل مع واقع الإعلام ومضامينه من حولهم.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

الحلقة الأولى هنا

=====-

(1) نقلا عن "د. محمد الراجي" في مراجعته لكتاب "أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام" في موقع مركز دراسات الجزيرة، ٢٧/ ١٢/ ٢٠١٥م. http://studies.aljazeera.net/ar/bookrevision/2015/12/201512278418463737.html

(2) توجد بالعربية كتب ودراسات ومقالات عديدة حول تفاقم تأثير وسائل الاتصال الحديثة وتطورها السريع، منها ما خصص الحديث عن العلاقة بينها وبين الإعلام الإسلامي، ومن ذلك كمثال: "الإعلام الإسلامي" كتاب بقلم د. عبد الرزاق محمد الدليمي، الذي يرى أن الإعلام أصبح جزءا من "الاتصال" وليس العكس، وصدر الكتاب عام ٢٠١٣م عن دار المسيرة في عمان.. ومنها ما ركز على العلاقة بين ما بات يوصف بالقديم والجديد من الإعلام، ومثال ذلك: "الإعلام القديم والجديد.. تكامل لا صراع" أحمد حموش، تقرير إخباري حول ندوة حوارية في منتدى الجزيرة، ١٦/ ٣/ ٢٠١٣م. http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2013/3/16/الإعلام-القديم-والجديد-تكامل-لا-صراع

(3) خالد حروب، جدل "الإعلام التقليدي" و"الإعلام الجديد"، في جريدة الشرق القطرية يوم ١٩/ ٥/ ٢٠١٤م.

(4) حول حجم إشكالية ما يتطلبه تعريف المفهوم الاصطلاحي وبعض جوانبها، يمكن الرجوع إلى بشير الكبيسي، "إشكالية المصطلحات.. إعلام أم اتصال؟" يوم ١٢/٩/ ٢٠١٧م، في مجلة الصحافة الصادرة عن معهد الجزيرة للإعلام. http://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/2017/09/170912103123763.html

(5) سبق الاستشهاد ببعض نصوص التعريف المبسطة، ومن ذلك أيضا: محمد أبو خليف، "تعريف الإعلام" نقلًا وترجمة عن مادة (Media) في معجمي الأعمال التجارية وأكسفورد: "الإعلام مجموعة من قنوات الاتّصال المُستخدَمة في نشر الأخبار أو الإعلانات الترويجيّة أو البيانات.. ويُعرف الإعلام بأنّه الوسيلة الاجتماعيّة الرئيسة للتواصل مع الجماهير. https://mawdoo3.com/تعريف_الإعلام#cite_note-IGoonns7rJ-2 مقابل نصوص تعريف تعتبر شروحًا وليس تعريفات.. ومثالها تحت عنوان "مفهوم مصطلح الإعلام" في موقع "الإعلام الجديد": https://intesar000.wordpress.com/قضايا-ومسائل-في-الاعلام/تعريف-مفهوم-الاعلام/ 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين