عزة من العزيز:
إنَّ
العافيَ عن الناس يتحصل له بِعَفوهِ تزكية كريمة لنفسه، تُدخِلُهُ على رَبِّهِ،
وتُدنِيه منه، وتُقَرِّبُه إليه، وتُصَيِّرُه مَحبوبًا له؛ ذلك أنه وافق الله في
صفة من صفاته وهي العفو، فيمنحه الله عزَّ وجلّ بسببها كمالًا بشريًا مشتقًا من
مقتضى الكَمال الإلهي، وبهذا يُسَربِلُ اللهُ بفضلهِ ومَنِّهِ العافي بعزةٍ من
عِزَّتِهِ فَإنَّهُ العزيز !
أما
من تَهُزُّهُ كلمةٌ عابرة، يُعلِنُ لأجلها حَربًا هادرة، فَأَنَّى له هذا الشرف،
بل مآله ذُلًّا أكيدًا، ولو كان أشد الناس صوتًا، وأكثرهم وعيدًا، فثبت عند
العقلاء أن العزةَ كل العزة في العفو عن الناس في سبيل الله !
العفو قرار الأقوياء، وصنعة الأنبياء:
وهذه جملةٌ دقيقةٌ نفيسة !
فإنَّ العفو رتبةٌ لا يرتقيها إلا أقوياء
البشر، أما سواد البشرية الأعظم فَضُعَفَاء حظهم الانتقام، وتكفي هذه المأثرة لذوي
الألباب، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الصحابة بقوله: " مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟، قَالُوا:
الَّذِي لاَ يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ ! قَالَ: " لاَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي
يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ "([1])
!
ولأجل هذا كان العفو صنعة الأنبياء، فقد أخرج
البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ:
" رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ "([2])
! وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه جرى له هذا مع قومه، فجعل يقول مثل ذلك.
إن
النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين مقاماتٍ ثلاثة: العفو عنهم، والاستغفار لهم،
والتماس العذر لهم بأنهم لا يعلمون !
والذي
نفسي بِيَدِهِ لا يقدر على ذلك إلا ذوو العزائم الباهرة، والقوة الظاهرة القاهرة،
ولذا رفعهم الله لما صبروا، وأعزهم لما عفوا وصفحوا، وصدق الحق إذْ يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] !
وبناء
عليه: فلما كان العفو صنعة الأنبياء،
وقرار الأقوياء، كانت العزة بادية على محياهم؛ إذ هي من ألمع صفاتهم، وأبرز
سماتهم، وإليك أنموذجًا عجبًا يؤكد ذلك !
أحضر
نصر بن منيع بين يدي الخليفة، وكان قد أمر بضرب عنقه، فقال: هل لك أن تسمع مني
كلمات يا أمير المؤمنين؟ قال: قل:
زعموا
بأن الصقر صادف مرة
*** عصفور بَرٍّ ساقه التقديـر
فتكلم العصفـور تحت جناحـه
*** والصقر منقض عليه يطير
إنـي لمثلـك لا
أتمـم لقمـة
*** ولئن شويت فإنني لحقيـر
فتهاون الصقر المدل بصيـده
*** كرمًا وأفلت ذلك العصفور
فعفا الخليفة عنه،
وَخَلَّى سبيله([3])،
فمن شيم الكرام عفو الصقر عن العصفور !
حقك مكفول، فأين المذلة؟!:
إن
من أُوذِيَ إما أن يكون أذاه في سبيل الله، أو لمعصية اقترفها، أو لحظٍّ له !
أما
من أوذي في سبيل الله لم يكن له الانتقام لنفسه؛ إذْ أجره على ربه، ألا ترى أن
الشهداء الذين ذهبت دماؤهم وأموالهم لم تكن مضمونة؟!؛ ذلك أن الله اشتراها منهم،
فالثمن عليه لا على الخلق، ومن طلبه من الخلق؛ لم يكن له على الله ثمن !
وأما
من أوذي لمعصية اقترفها فَلْيَعُدْ بالمَلامة على نفسه، ففي ذلك شغلٌ له عن ملامة
من آذاه !
أقرر بذنبك ثم
اطلب تجاوزهم عنه؛ فإن جحود الذنب
ذنبـان
وقد تيقظ الخليفة المأمون للمعادلة، فنصح وزيرًا
من وزرائه، فقال له: " لا تعصِ الله بطاعتي فَيُسَلِّطَنِي عليك "
وأما
إن أُذِيت لحقٍ راسخٍ لك، فلتوطن نفسك على الصبر والعفو؛ ذلك أن حقك مكفول، فإن
شئت استوفيته في الدنيا فكنت بذلك منتصرًا، أو أرجأته ليوم القيامة، وإن فعلت فأنت
تخير يومئذ بين أن يقتص الله لك ممن ظلمك، أو تعفو عنه فيرفعك؛ ذلك أن المثوبة
ترتجى عندئذ أكثر مما تعطاه من حسناته !
فإذا
تكفل الله بِحَقِّك، وأعزك بذلك ونصرك، فأخبرني بالله عليك، أي مذلة تلحقك؟!
قال
ابن تيمية: إن الناس أربعة: منهم من ينتصر لربه ولنفسه، فهذا عنده دين وغضب، ومنهم
لا ينتصر لربه ولا لنفسه، فهذا عنده ضعف دِينٍ وَجُبْن، ومنهم من ينتقم لنفسه وهذا
شر المراتب، ومنهم من ينتصر لربه، ويسقط حق نفسه، فهذا أكمل المراتب([4])
! فَمِنْ أَيِّ المَرَاتِبِ الأَرْبَعَةِ أَنْتَ؟!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول