مدخَل لتقارب الرؤى حول الإعلام والإعلام الإسلاميِّ (1-6)

تمهيد

من العسير الإدلاء بقول جازم في شأن ماهية الإعلام الإسلامي، ناهيك عن إيجاد صيغة محكمة لتعريفه، وبالمقابل من العسير أيضًا أن تؤدي عملية تطويره المرجوّة أهدافها على أرض الواقع، دون حد أدنى من التقارب على رؤية مشتركة لما يعنيه هذا التعبير المنتشر منذ زمن، وإن هذا البحث هو محاولة للإسهام في وضع مؤشرات أولية للتعريف بهذا المصطلح دون ادّعاء استيفاء الاطلاع على ما كتب في الموضوع نفسه، فهو كثير وما زال متواصلًا. ومعظم ما كتب حول الإعلام الإسلامي يبدأ بمحاولة مراجعة استنباط المصطلحات وتعريفها والبحث المنهجي بشأنها، إنما لا يكاد يوجد رابط ناظم للمحاولات المبذولة في هذا الاتجاه سوى تأكيد الالتزام بالإسلام عمومًا (1). 

الأصل في المصطلحات هو التوافق على تعريف موجز محكم، يحدد المقصود من التعبير، وهو هنا شطران، أحدهما كلمة الإسلام، ولا يتحقق التوافق على تعريف ما ينسب من الإعلام إليه ما دام كل طرف يربط المقصود من الكلمة بمنطلقه الذاتي، الفقهي أو الحركي أو الدعوي، أو يتناول الموضوع تبعًا لموقعه من الإعلام دارسًا أو منتجًا أو مستهلكًا أو ناقدًا إعلاميًا، سواء كان صاحب رؤية إسلامية أو رؤية أخرى. 

السؤال: 

ما الذي يجعل الباحثين يرون في السَّعي إلى إيجاد مفهومٍ اصطلاحيٍّ للإعلام الإسلاميِّ ضرورةً شبهَ حتميَّةٍ في بحوثهم؟ 

عند استحالة تثبيت المصطلح منهجيًا ألا تكون تلك النظرة إلى حتميته من معيقات العمل لتطوير الإعلام الإسلامي وهو موجود على أرض الواقع؟ 

وبالمقابل:

ألا يعيق غياب قواسم مشتركة للتعامل منهجيًا مع تعبير الإعلام الإسلامي، ظهور رؤى متقاربة لتطويره بما ينسجم مع الرغبة في خدمة ما انتشر وينتشر من مواد ووسائل وعطاءات تحت هذا العنوان؟

محاولة الإجابة في هذا البحث ترتكز على إيجاد معطيات تتعلق بالإعلام أولًا، وبما شاع توصيفه بالإسلامي ثانيًا، بهدف التوصل إلى مؤشرات عملية نحو رؤية مشتركة، خطوةً تمهيدية لطرح معالم الكيفية التطويرية الممكنة للإعلام الإسلامي (2)، وهذا مع مراعاة ما حَمَلَ هذا التعبير أو حُمِّلَ عبر تداوله على نطاق واسع بين العامة والخاصة.

مفهوم الإعلام يلهث وراء مساراته

في تعبير الإعلام الإسلامي الموضوع للبحث كلمتان: إعلام وإسلام.. ومن الضروري والمفيد منطقيًّا البحث في كلمة إعلام بِعَدِّه هو الموصوف، قبل البحث في الصفة، أي كلمة إسلامي.

إشكالية مفهوم الإعلام:

الإعلام بحد ذاته لا يجد مفهومًا اصطلاحيًا متوافقًا عليه، وبعض ما وضع خلال عقود مضت لتأطير الكلمة في نطاق علم الإعلام جامعيًا، لم يصمد أمام المتغيرات الجارية في واقع الإعلام عبر تطوير وسائله، فأصبح لهذه الوسائل تأثير كبير في الباحثين؛ إذ يعطونها موقعًا متقدمًا في أي تعريف يميلون إليه، ممّا يشير إلى طغيان سرعة تطورها على سرعة دراسات جوهر ماهية الإعلام وممارسته وتنوع مضامينه وميادين تأثيره، ناهيك عن رسالته وتعدد أشكال أدائها. 

تبسيط صياغة المفهوم:

يرى إبراهيم إمام تعريفَ الإعلام بأنه: "نشر للحقائق والأخبار والأفكار والآراء بوسائل الإعلام المختلفة" (3)، وفي هذا التعريف تبسيط يحول دون وصفه بالاصطلاحي المحكم. ونرصد عمومًا لحاق محاولات صياغة المصطلحات بعجلة التطور، فهذه إشكالية قديمة متجددة (4)، ولكن استفحلت حديثًا في ميدان الإعلام استفحالًا لا نكاد نقدّر حجمه بما يكفي.

سرعة تجاوز التطورات للمفهوم:

في عام ١٩٩٨م كتب الباحث الألماني في عالم الاتصالات (Gerhard Maletzke) أن الإعلام يتميز عن سواه بخمسة عناصر حاسمة، وترجمتها بإيجاز: (١) العلنية فلا تخصيص للمستقبل. (٢) استخدام تقنيات وسائل الاتصال عن بعد. (٣) بصورة غير مباشرة أي انفصال المرسل والمستقبل مكانًا وزمانًا. (٤) أن يكون الإرسال باتجاه واحد وليس متبادلًا. (٥) تباعد الجمهور بعضه عن بعض. 

وبعد ذلك بثلاثة أعوام فقط، نشر الباحثان المتخصصان في علوم الاتصالات أيضا (Michael Kunczik) و(Astrid Zipfel) كتابًا جاء فيه حول تلك العناصر الخمسة ما ترجمته: "إن هذه العناصر مناسبة لوصف التواصل الإعلامي عن طريق وسائل مثل الصحف والإذاعة والتلفزة، ولكن لم يعد التعريف - استنادًا إليها - كافيًا للتعامل مع الوسائل الجديدة، ولا سيما مع وجود عنصر التبادل الإعلامي المباشر بين المرسل والمستقبل" (5).

مسار التطورات معقد ومذهل:

الواقع أن مسار تطورات جميع ما يتعلق بالإعلام أصبح واسع النطاق وشديد التعقيد، ويعبر محطات متتالية ومتداخلة بسرعة متصاعدة، ومن عناوين تلك التطورات:

(١) تسارع اختراعات التواصل عن بعد، سلكيًا ثم فضائيًا.

(٢) انطلاق البث الإذاعي والتلفازي محدودًا ثم متضخمًا.

(٣) بداية انتشار ترجمة الصوت إلكترونيًا إلى حروف مكتوبة وبالعكس.

(٤) تطور تقنيات الصورة من الأسود والأبيض إلى أقصى أطياف الألوان المتعددة.

(٥) النقلة متعددة المراحل من الرسم إلى آلة التصوير الذكية التي تميّز بنفسها نوعيات ما يتم تصويره.

(٦) نقلة التصوير من الثابت إلى المتحرك.

(٧) التقنيات المجسّمة والرقمية.

(٨) بوابة التقنيات الفراغية / الهولوجرافية.. مع توقعات لا حدود لها لما وراء هذه البوابة.

شبكات التواصل الحاضنة للإعلام وتأثيرها:

العنصر الأهم من وراء هذه اللوحة الزاخرة بالمتغيرات، معايشتُنا لها جميعًا بصورة متوازية مع تطوّر شبكات التواصل وأدواتها، نوعًا وكمًّا، وانتشارها جغرافيًا وفضائيًا، بسرعة مذهلة. 

وهذا بمجموعه تطور تاريخي غير مسبوق حجمًا وتأثيرًا، ولئن احتاج تطور بعض القطاعات الاقتصادية كصناعة السيارات إلى مائة عام وأكثر.. وما زال مستمرًا، فقد كان كافيًا أن يمضي عقدان من الزمن فقط، لتتجاوزها شركات حديثة النشأة في ميدان الاتصال، مثل جوجل وآبل وفيس بوك وأمثالها، مع اتساع حجم عملها في نطاق الإعلام وسواه، ويقابل ذلك في المدة نفسها توجه الإعلام المطبوع نحو الانقراض كما يقال. وبهذا الصدد يقول (Warren Buffett) المستثمر الأمريكي المشهور في مجال الإعلام: "إن عدد المطبوعات الأمريكية الكبرى انخفض من نحو ١٨٠٠ إلى ١٣٠٠ خلال عقدين، ولا يتوقع أن يبقى منها إلا تلك التي أوجدت لنفسها مدخلًا شبكيًا إلى الإعلام، مثل وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز" (6).

ولا يقتصر تأثير ما ظهر من شركات عملاقة في تنامي نفوذها "السياسي والمالي والاجتماعي" عالميًا، بل يشمل ممارساتها المؤثرة في صناعة الإنسان عبر تطوير هائل وسريع لمضامين الإعلام ووظيفته الأولى، ولنقلها المقترن بدرجات تأثير إضافية، تقنيًا ودعائيًا، تتجاوز بمراحل صلب المفاهيم الاصطلاحية القديمة المتعددة لكلمة الإعلام ومسارها منذ النشأة الأولى لهذا التعبير.

والسؤال: كيف نراعي هذه الأبعاد في الإعلام وتطوره، في الدراسات النظرية حول الإعلام الإسلامي وتطويره، ناهيك عن الميدان العملي؟

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

(1) التقاء محاولات تعريف الإعلام الإسلامي على تأكيد "الالتزام بالإسلام" فحسب، والشاهد في مثالين حول تعريف مختصر وآخر مفصل.. تعريف مختصر: "الإعلام هو الدعوة، والدعوة هي الإسلام"، تيسير محجوب الفتياني، كتاب "مقومات رجل الإعلام الإسلامي"، ص ٣٠، الناشر: دار عمار للنشر والتوزيع في عمّان، ط ١: ١٩٨٧م، وممن يربط الإعلام بالدعوة أيضا د. عبد القادر طاش، ومحيي الدين عبد الحليم، ومحمد منير حجاب، ومحمد موفق الغلاييني.

تعريف مفصل: "استخدام منهج إسلامي بأسلوب فني إعلامي يقوم به مسلمون عالمون عاملون بدينهم، متفقهون لطبيعة الإعلام ووسائله الحديثة وجماهيره المتباينة، مستخدمين تلك الوسائل المتطورة لنشر الأفكار المتحضرة، والأخبار الحديثة، والقيم والمبادئ والمُثُل للمسلمين ولغير المسلمين في كل زمان ومكان في إطار الموضوعية الكاملة؛ بهدف التوجيه والتوعية، والإرشاد لإحداث التأثير المطلوب". د. نسيبة محاسنة، في مقالة "الإعلام في الإسلام"، ١٠/ ٦/ ٢٠١٤م. https://www.wasatyea.net/?q=ar/content/الإعلام-في-الإسلام

(2) تحت الإعداد بقلم كاتب هذه السطور بحث آخر حول "معالم لتطوير الإعلام الإسلامي تطويرا متجددا".

(3) ينقل د. نزار نبيل أبو منشار في مقال بعنوان: "تعريف الإعلام" في موقع الألوكة أكثر من تعريف اصطلاحي للدكتور سامي ذبيان، ومحمود سفر، وطلعت همام، وإبراهيم إمام، والألماني أوتو جرات، وغيرها فينتقدها جميعًا ويستقر من بينها على تعريف إبراهيم إمام: "نشر للحقائق والأخبار والأفكار والآراء بوسائل الإعلام المختلفة" http://www.alukah.net/culture/0/72322/ وعلى غرار ذلك تورد سمية إبراهيم المكاوي في بحث ماجستير "الإعلام الإسلامي والإعلام الغربي في حاضر اليوم دراسة مقارنة" عام ٢٠١٦م، عددًا من التعريفات، ص ٤٨-٤٩، وآخرها قول الكاتبة سهيلة حماد في كتابها "الإعلام في العالم الإسلامي الواقع والمستقبل: "الإعلام الإسلامي يعني بيان الحق وتزيينه للناس بكافة الطرق والأساليب والوسائل العلمية المشروعة؛ بقصد جلب العقول إلى الحق، وإشراك الناس في نيل خير الإسلام وهديه، وإبعادهم عن الباطل وإقامة الحجة عليهم"، وتختتم المكاوي ذلك بقولها:" فالإعلام الإسلامي هو تعميم الاتصال الايجابي، لنشر مبادئ الدين الإسلامي وأخباره في جميع الميادين، وعلى كافة المستويات وبكافة الوسائل المتاحة، لتحقيق كافة الأهداف المشروعة".

(4) في نص التعريف بـ "مشروع المصطلحات الخاصة بالمنظمة العربية للترجمة"، إعداد عدة مؤلفين، ترد إشارات عديدة إلى العلاقة بين ظهور مصطلحات جديدة أو مفاهيم جديدة نتيجة انطلاق عجلة التطور، وهو ما يضع العاملين في الترجمة إلى العربية أمام إشكاليات وصعوبات كبيرة. http://www.langue-arabe.fr/IMG/pdf/attachment44_107.pdf والواقع أن هذا لا يقتصر على قطاع الترجمة بل يشمل عموم ما يتعلق بالتعامل مع المصطلحات في عالمنا المعاصر.

(5) انظر: Gerhard Maletzke: Kommunikationswissenschaft im Überblick: Grundlagen, Probleme, Perspektiven. Westdeutscher Verlag, Opladen 1998, S. 45 f.

وانظر: Michael Kunczik, Astrid Zipfel: Publizistik. Ein Studienhandbuch. Böhlau, Köln/ Weimar/ Wien 2001, S. 50.

(6) من مقابلة إعلامية مع وارّن بوفيت يوم ١/ ٣/ ٢٠١٧م: https://meedia.de/2017/03/01/warren-buffett-sagt-grosses-zeitungssterben-voraus-nur-die-new-york-times-und-das-wall-street-journal-ueberleben/ 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين