نقد المعايير المغلوطة ( 3 -4)

رابعا: قول الكبيسي: (أما الشورى فرغم أهميتها العظمى فإن اعتمادها آلية وحيدة في اختيار الحاكم.. لا يخلو من التكلف والمثالية البعيدة عن الواقع) وهذا حق لو سُلّم أن للشورى آلية واحدة كما قال، وقد مر أن آلياتـها في عهد الخلفاء الراشدين ثلاثة، وقد توجد لها آليات أكثر ما دامت الحاجة إلى العمل بـها داعية، وإنما قلّت آلياتـها لأنـها انحسرت بعد عهد الخلفاء وغلب الحكم السلالي التوارثي كما هو معلوم للدكتور الفاضل.

وأيضا فهذا النظام التوارثي السلالي هل له أكثر من آلية؟ فإن قال الدكتور عياش: بلى، طولب بذكر آلياته حتى نتكلم عليها، والمعروف أنه ليس له إلا آلية تقليدية واحدة، وإلا فلا موقع لكلام الدكتور، وبه يظهر أن في الحكم الشوري من الآليات ما لا يوجد مثله في الحكم التوارثي السلالي، وهذا الذي جعله أصلح وأنفع وأقرب لتحقيق مقاصد الإمامة من غيره، وأبعد عن المثالية وأقرب للواقعية.

خامسا: قال الكبيسي: (فأهل السقيفة تشاوروا في اختيار أبي بكر وحتى لو كان معهم كل أهل المدينة لا يمكن اعتبارهم عدداً كافيا لتمثيل الأمة.. وكذلك طريقة اختيار عمر ثم عثمان ثم علي، فالأمة خارج المدينة كانت تتلقى الأخبار ثم تتابع فهل كانت الأمة قد خولت أهل المدينة بذلك).

هذا كلامه بحروفه، وفيه أن المطالبة بالعدد الكافي لتمثيل الأمة لا يتَّجه إذ ذاك، لأن عامة أهل الإسلام كانوا من العوام الذين لا خبرة لهم بأنماط الحكم والسياسة، وإنما همتهم في حكم ينتظم به أمر دنياهم ودينهم، وهذا حاصل في خلافة الراشدين قطعا.

وأيضا فأهل الحل والعقد هم النواب عنهم في ذلك فلا موقع للمطالبة بما أسماه الدكتور (العدد الكافي لتمثيل الأمة) وإنما يتجه المطالبة بذلك في واقع يكون عامة الناس أو أغلبهم ممن يعي الواقع السياسي كالحال في أوربا اليوم، وهذا لا يوجد في مجتمعاتنا حتى اليوم، فلا يتأتَّى المطالبة بذلك إلا حيث يكون الناس عامتهم على قدر من الوعي السياسي في اختيار من يمثلهم.

وأيضا فأين العدد الكافي الذي يمثل الأمة في النظام التوارثي السلالي؟ فإنَّ تتابع العامة فيه على البيعة لولي العهد أشد كما هو مشاهد في الأنظمة التوارثية السلالية، فورود قول الدكتور: (الأمة خارج المدينة كانت تتلقّى الأخبار، ثم تتابع فهل كانت الأمة قد خوَّلت أهل المدينة بذلك) فيه آكد، فإنه يُبايع له دون أدنى تخويل لأحد من الأمة، ومن يمتنع فإما أنه يضطهد أو يفنى ولهذا سماه الشارع (جبريا) بخلاف البيعة في النظام الشوري.

وأيضا فأهل المدينة كانوا هم من يمثل كافة الأمة لأن بـها عامَّة الصحابة وهم خيار الأمة وأعلمها وأعقلها وأحرصُ على مصلحتها من غيرهم، والناس يعلمون ذلك بمقتضى صحبتهم وخبرتـهم وتجربتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبمقتضى الأخبار الثابتة في فضائلهم وفضائل المدينة، والأخبار بلزوم الصحابة والاقتداء بـهديهم وسننهم ولا سيما الخلفاء الأربعة منهم، وهذا أعظم من مجرد تخويلهم الشفوي أو الكتابي، فإن النصوص معصومة ودلالتها في اتباعهم ظاهرة جداً، فكيف وفيهم الصديق الأكبر والملهم المحدَّث ومن يدور الحق معه حيث دار والحواري والأمين وغيرهم من المبشرين بالجنة.؟

وقوله: (إن الذي كان يحكم المعادلة هو الواقع لأن أدوات التواصل الشوري بين الأقاليم كانت أشبه بالمستحيل) مناقض لما تقدَّم له من دعوى أن النظام الشوري مثالي، ويقال له: هم تعاملوا بحسب ما تيسر في واقعهم، وإذا قُدر أنه خطأ لقصور أدوات التواصل، فهذا لا يعكر على النظام الشوري وصلاحيته بل أصلحيته من غيره لإمكان تلافي هذا باستعمال ما توافر اليوم من أدوات التواصل الحديثة.

على أن هذا إنما يتأتى في خلافة الصديق لأن بيعته كانت فلتة بمقتضى الواقع المشعر بالخطر الذي احتف بالدولة من الداخل والخارج، فاحتيج لحسم الأمر لئلا ينفرط عقد نظام الحكم، فكانت بيعته فلتة وقى الله بـها الشرور التي كانت ستحل بالدولة لو لم يُستخلف الصديق رضوان الله عليه، ولما انتظم الأمر به تتايع على بيعته من لم يبايع من قبل كما قد بيناه في (الرد على عداب الحمش).

وأما في استخلاف عمر وعثمان وعلي فلا يرد ما قاله الدكتور، فإنه قد كُتب ببيعتهما إلى الأجناد والأقاليم فبايعوا لعلمهم السابق بأنه لا أصلح لها منهم في وقتهم، ولو قُدر أن منهم من لم يرض لنُقل ذلك مستفيضا فإن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله لكونه مما تعم بع البلوى.

لا يقال: إنا إنما نقصد أخذ رأيهم في استخلافه قبل بيعته، لأنا قد بينا أنه إنما لا يتأتى التعلق به في خلافة الراشدين، لإجماع الناس كلهم على فضلهم واستحقاقهم الخلافة دون منازع، فإنَّ النصوص ظاهرة في ذلك، هذا عدا النصوص المعلومة في استخلافهم على هذا الترتيب بطريق الإشارة كحديث جبل أحد في (الصحيح)، وحديث ابن عمر في (السنن) و(المسند) من طرق عنه قال: (كنا نقول ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ وأصحابه متوافرون: أبو بكر وعمر وعثمان) وعند أبي داود: (أفضل الأمة) وغير ذلك.

ولأجل هذه الأفضلية وقع اختيارهم الشوري من عامة المسلمين دون نزاع، ولا يعكر عدم وجود مثل هذه النصوص الظاهرة في فضائلهم فيمن جاء بعدهم من الحكام الذين يختارون بالشورى، على أولوية النظام الشوري وأصلحيته، لأن في النصوص الشرعية الخاصة المرشدة إلى صفات من يستأهل للولاية ما يسد مسد هذه الفضائل التي اقتضت اختيار المسلمين لهم، وهو ما عبر عنه الدكتور بالثقة المطلقة. 

وقوله: (أما بعد أن دخلت الفتنة المدينة وتم قتل عثمان) وهذا قد تقدم انتقاضه بأن عثمان رضي الله عنه هو الذي اختار القتل وآثره، ولو شاء لدفع عنه الصحابة الشر بما لا يقتدر معه أهل الفتنة على قتله، فلا يسلم للدكتور هذا الإطلاق فإنه خلاف النص والواقع.

وقوله: (ولا أن يستعيدوا هيبة الخلافة) غلط منه، بل قد استعادها علي عليه السلام حتى إنه أغزى زياد بن أبيه إلى خراسان، ولولا ما وقع من استبداد معاوية رضي الله عنه بالشام لما تجرأ الأعداء عليهم، بل لقد كانت هيبة الدولة مع اختلافهم أقوى من هيبتها فيمن جاء بعدهم ممن توارثوا الحكم، وقد اجترأ ملك الروم على أن يكتب لمعاوية يستميله على علي، فرده بأقوى رد وأهيبه حتى انخنس عدو الله وارتدع، وكان بعد ذلك يخطب ود معاوية ويبعث إليه بالهدايا والنفائس.

وسؤاله: (فكيف نطالب الأقاليم القوية والمستقرة كمصر والشام بمتابعة أهل المدينة على هذا الحال) عجيب من مثله، فإنه إن قصد به ما كان في التاريخ فقد تابع أهلُ هذه الأمصار أهلَ المدينة، وكان استقرارهم وقوتـهم من قوة واستقرار المدينة، وإن قصد به في حالة الحكم الشوري فسؤاله هذا مفروض في الحكم الوراثي السلالي ولا فرق.

وما الداعي إلى عدم متابعتهم لمركز الحكم وفيهم الولاة والحكام التابعون للخليفة بالمدينة، وهم الذين يضبطون النظام ويتحقق بـهم مقصود الإمامة وتابعية أهل الأمصار لمركز الحكم بالمدينة أو غيرها، وقد وقع على عهد علي ومعاوية من الحروب بينهم ما هو معلوم مشهور، ولم ينفرط عقد متابعة أهل مصر للشام التي بـها مركز حكم معاوية، ولا انفرط عقد متابعة أهل الحجازين وخراسان للعراق الذي كان به مركز حكم علي.

وإن قدر وجود عدم المتابعة فهذا يحسمه الإمام، وهو شيء واقع في كل الدول التي تضربـها الفتن، ووقوعه في دول السلالات المتوارثة للحكم أكثر من وقوعه في دول النظام الشوري، ثم ما الذي يقصده الدكتور من هذا؟ هل يريد به أن لأهل هذه الأمصار المستقرة أن يتمردوا على بيعتهم لأهل المدينة التي بـها مركز الحكم بمجرد أن تعصف بـها الفتن؟ فيثب منهم من كان الحكم في سلالته ويستلب الملك ويحكم بمفرده في دولة مستقلة هو وأبناؤه.؟

وهذا وإن كان ظاهر عبارة الدكتور عياش كما قال بعده: (ولو فرضنا أن أهل مصر والشام اجتمعوا على خليفة بعد مقتل عثمان فهل لهم ذلك وما المعيار الشرعي أو السياسي في ذلك) إلا أني أجلُّه عنه، لكن يقال له: بتقدير حصوله فليس لأهل الحل والعقد منهم أن يقروه، لأن في أعناقهم بيعة قد أمر الشارع بالوفاء بـها وأخبر أن نقضها كفر.

وإن قيل: إن أميراً منهم استبد بالحكم ودعا لنفسه واستولى عليه، فلا يخلو إما أن يتغلّب بالقوة أو لا؟ الثاني: لا يحل لهم إقراره على ذلك بل الواجب عليهم الوفاء ببيعة الأول كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه يكون فيكم خلفاء) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (فُوا ببيعة الأول منهم).

وعلى الأول وهو أن يتغلب بشوكة وينتزع الحكم بقوة، فلا يخلو إن يكونوا قادرين على خلعه بالقوة دون مفسدة أو بمفسدة أقل، فيجب عليهم ذلك، وإن لم يقتدروا على ردعه وتمكن بالغلبة فقد مرَّ أن حكمه يصح في الظاهر تغليبا للمصلحة لتحقق مقصود الإمامة به، ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس العطار: (من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أو فاجراً) وقال أيضاً في رواية أبي الحارث في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم فقال أحمد: (تكون الجمعة مع من غلب) واحتج بأن ابن عمر صلّى بأهل المدينة زمن الحرة وقال: (نحن مع من غلب) وقد حصل بـهذا جواب سؤال الدكتور.

وأيضا فقد تنازع الناس في عقد الإمامة لخليفتين صالحين للإمامة كل واحد منهما في جهة، وعبارة (الأزهار) أنه (لا يصح) لقول عمر: (لا يصلح سيفان في غمد) وإجماعهم يوم السقيفة، وأطلق إمام الحرمين فيه الإجماع، لكن نقل العلامة الحسن بن أحمد الجلال فيه خلافاً عن الناصر أنه يجوز إذا تباعدت الديار، كما كان هو في بلاد الجيل والديلم، والهادي في اليمن، وحكي فيه الخلاف عن المؤيد بالله وكثير من فقهاء العترة.

والتحقيق أنه لا يخلو إما أن يتغلب أو لا، الثاني إما أن تتقارب الديار فالجمهور أنه لا يجوز، وحكاه يحيى بن حمزة إجماعاً وفيه نظر، فإن عقد لهما واستويا في الفضل فالحكم للأول منهما، وإن استويا أقرع بينهما كما قال الشافعي والجبائي، وقيل: يختار أهل الحل والعقد أصلحهما، والصحيح أنه إذا لم يمكن لأحدهما أن يستبدَّ بـها دون الاخر، صحت ولايتهما في الظاهر تغليباً للمصلحة المتحققة بـهما. 

وإن خرج الفاضل بعد المفضول الذي عقد له، فالجمهور على صحَّة إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وهو قول بعض الزيدية وعلي بن الحسين ومحمد بن عبد الله النفس الزكية وأبي طالب أحمد بن الحسين الناطق بالحق والمؤيد بالله أحمد بن الحسين ويحيى بن حمزة، لصحة القطع بإمامته وقيامه بأعباء الخلافة فلا يخرج عنها بتغير الحال كمن أخذ الزكاة فقيراً ثم استغنى.

وإن تباعدت الديار فالأشعرية والمعتزلة والخوارج وأحد قولي المؤيد بالله أنه لا يصح، وذهب بعض التابعين والجاحظ وعباد الصيمري ويحيى والناصر الأُطروش والهادي والمؤيد بالله في أحد قوليه إلى الجواز لحصول الفرض بـهما، وصحَّحه المهدي في (البحر) لكمال المصلحة كما كان بنو العباس في المشرق والأمويون بالأندلس والأدارسة بالمغرب والناصر في الجيل والهادي في اليمن، وإن كان متغلباً فقد مر البحث والكلام فيه

واحتجَّ من منع من تعدد الولاة بحديث: (إذا بويع لخليفتين فاضربوا عنق الاخر) ورُدَّ بأنه منتقض بمعاوية فإنه نازع علياً ووافقه بعض الصحابة كعمرو وابنه، ونقح ابن الأمير أنه خاص بزمان الصحابة قبل انتشار الإسلام، وأيضاً فهو محمول على مريد الملك والمنازعة لا مريد الإصلاح، قالوا: الإمامة فرض كفاية فتتحقق بواحد، ورده العلامة الجلال بأن الفرض الكفائي لا يتعيَّن على واحد إلا حيث لا يوجد غيره، قالوا: تجويز التعدد مقتض للفساد، وعورض بالقياس على الأنبياء، ورده المانع بالفرق، فإن تعدد الأنبياء اقتضاه تعدد شرائعهم، ولا كذالك هنا، وأُجيب بأن مذاهب الأئمة كالشرائع، ونقضه ابن الأمير بالفرق بعصمة الأنبياء.

وضابط المسألة: تحصيل ما به تحقق مصلحة العامة من مقصود الإمامة بضبط النظام والدولة وتأمين السبل وإنفاذ الأحكام والحدود وحفظ مصالح الناس ومعايشهم، فمتى حصل ذلك وجب سواء كان بالتغلب أو بالوراثة، لكن الغلط أن يجعل هذا هو الأولى وهو إنما وجب ضرورة، فإن الأصل المعلوم من نصوص الشارع وإجماع العلماء هو الشورى والاستخلاف.

ولهذا قال علي عليه السلام: (لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة) فقيل له: هذه البرة عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: (تأمن بـها السبل، وتُقام بـها الحدود، ويُجاهد بـها العدو، ويُقسم بـها الفيء) ذكره علي بن معبد في كتاب (الطاعة والمعصية) حكاه ابن تيمية.

وأما حديث: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد فاقتلوه بالسيف) فللناس في تأويله طرق، فمنهم من أعله كأبي جعفر العقيلي وابن عدي، وفيه نظر والظاهر أنـهم إنما أعلوا بعض طرقها، أو أعلوها من جهة متونـها، فإن ظاهرها غير مراد على جهة العموم، فليس كل خارج يُقتل ولا كل مخروج عليه يستحق من خرج عليه القتلَ بسببه، ولهذا استشكل ظواهرَ هذه الأخبار الإمام أحمد، وحملها إسحاق بن راهويه على خارج قام ليضع السيفَ في الأمة ويعرض برّها وفاجرها عليه، وتأولها مالكٌ في الخروج على ولاة العدل كعمر بن عبد العزيز ونظرائه، وهو متعين فأما من انتظم به أمر الناس فتجب طاعته تغليبا لمصلحة العامَّة.

يتبع 

انظر الحلقة الثانية هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين