نقد المعايير المغلوطة ( 2 -4)

ثالثا: قول الدكتور عياش الكبيسي: (إنَّ خلافة الراشدين كان فيها ثغرات سياسية وأمنية كادت تودي بالدولة والمشروع الإسلامي كله ويكفي تمكن المارقين من قتل الخلفاء الثلاثة) مهدر، لأن التاريخ ناطق بأن ما أسماه بالثغرات السياسية والاغتيالات في خلافة الراشدين الشورية الاستخلافية، أقل منه في غيرها ممَّن جاء بعدها، ومن نظر في تواريخ خلفاء وملوك الأمويين والعباسيين وغيرهم ممن كانت ولايتهم سلالية توارثية علم ذلك وتحققه، فلا حاجة بنا للتطويل بنقله، ودونك : "تاريخ الخلفاء" للسيوطي في هذا المعنى، ومنظومة الوزير لسان الدين وغير ذلك مما صُنِّف في تاريخ الدول والملوك.

وأيضا فإن هذه الثغرات والاغتيالات في الخلفاء الراشدين جاءت من الخارج بسبب عداوة ملوك الفرس والروم وغيرهم للدولة التي فرضت نفسها بقوة في العالم، بخلاف الدول التي كان الحكم فيها توارثيًّا سلاليًّا فإن هذه الثغرات تطرَّقت لها من الداخل، لأن الحكم القبلي الأسري السلالي مظنَّة استثارة العداوات والعصبيات بين القبائل والسلالات، فيجتمع على الدولة الثغرات الداخلية والخارجية. 

ومن هنا كان هو أقرب للفساد من الحكم الاستخلافي الشوري، فإن قتل عثمان كان فتنة سببها ابن سبأ الذي استثار الخوارج بمصر على عثمان وألَّب الناس عليه، ومع هذا كان يمكن للصحابة الدفع عن عثمان والقضاء على الفتنة وتأمين الخليفة لكن عثمان هو من منعهم وأقسم عليهم ورعًا منه لئلا يكون أول خليفة يهتك الحرم النبوي.

وقتل عمر كان بيد مجوسيّ عِلج، وقتل علي كان من الخوارج، وهؤلاء لم تسلم منهم دولة لا الخلفاء ولا غيرهم من أهل الحكم السلالي، فإنـهم قدر هذه الأمة لعلة الفهم المغلوط لظواهر النصوص، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بظهورهم في كل دولة وعهد حتى يخرج في عراضهم الدجال كما في (المسند) وغيره، فالاغتيال والثغرات أكثر في حكم غير الشورى لأجل غلبة العصبيَّة السلالية واستحكام النزاع القبلي الأسري، ولهذا فإن من يعدل منهم ويحيد عن سياسة الاستبداد الأسري يعالج في قانونـهم التوارثي بالقتل حفاظا منهم على بقاء الحكم في الأسرة، كالذي وقع من الأمويين لعمر بن عبد العزيز ، ومن العباسيين للمهتدي بالله الذي يقال له: عمر بني العباس.

وأيضا فإن الحكم الشوري أقرب للعدل وصلاح الراعي والرعية من الحكم التوارثي الذي هو مظنَّة استبداد الحكام واستئثار عصبتهم بالملك وأركانه كما هو مشاهد، وحصول إنكار المنكرات من الجور والسياسات الخاطئة في الحكم الشوري آكد منه في الحكم التوارثي، وانتظام الحكم وأمر العامة فيه أكثر لأنه حاصل بالشورى والرأي لا بالغلبة والعصبية كما في غالب حكم المتورثين السلاليين. 

وتأمَّل حال أوربا في عهد الحكم السلالي إبَّان القرون الوسطى وقبله وبعده إلى قريب، وقارنه بحالها اليوم في نظام الحكم الديموقراطي توقن بأن النظام الشوري الاستخلافي الذي جاء به الإسلام هو الأصلح والأنفع، بدليل أن الناس في عهد الخلفاء الراشدين كانوا أقرب إلى كل خير وصلاح وأبعد عن كل شر وفساد منهم في عهد من بعدهم.

وتأمل تاريخ دول الإسلام تجد أمر مجموعا مستقيما على دولة واحدة قوية غالبة قاهرة حين كان الحكم فيها بالشورى والاستخلاف كما هو الحال في دولة الراشدين، فلما آل أمرها إلى الحكم التوارثي السلالي تفرَّقت فكان للمسلمين دولة للأمويين بالأندلس، وكان العباسيون بالمشرق، والأدارسة بالمغرب، والزيدية بالجيل والديلم، والعبيديون بمصر وغيرهم، فكان تمكن عدوهم منهم أدعى وأشد، وهذا كاف في تصور فساد الحكم التوارثي. 

وقد ذكر هو حديث العباس مع علي في سؤال الخلافة فقال له علي وهو أفقه من عمه وأعلم: (إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله) ولو كان الحكم السلالي أنفع للناس لم يعدل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا احتاج إلى كتابة كتاب الوصية في العهد لمن بعده، ولـمّا ترك كتابته لأجل اختلافهم عنده، تركه لعلمه أن الله يجمعهم على خيرهم، ولهذا لما قيل لعلي بعد طعنه: ألا تستخلف؟ فقال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، ولكن أترككم يجمعكم الله على خيركم كما جمعكم بعد نبيكم على خيركم).

وقد قال ابن القيم في (البدائع): (فائدة: السرُّ والله أعلم في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر وعثمان أن علياً لو تولى الخلافةَ بعد موته، لأوشك أن يقول المبطلون: إنه ملك ورّث ملكَه أهلَ بيته، فصان اللهُ منصبَ رسالته ونبوته عن هذه الشبهة، وتأمل قولَ هرقل لأبي سفيان: هل كان في آبائه من ملك؟ قال: لا. فقال له: لو كان في آبائه ملك لقلتُ: رجلٌ يطلب ملك آبائه. فصان الله منصبه العليّ من شبهة الـمُلْك في آبائه وأهل بيته وهذا والله أعلم هو السرُّ في كونه لم يورث هو والأنبياء قطعاً لهذه الشبهة، لئلا يظن المبطلُ أنَّ الأنبياء طلبوا جمع الدنيا لأولادهم وورثتهم، كما يفعله الإنسان من زهده في نفسه وتوريثه ماله لولده وذريته، فصانـهم الله عن ذلك ومنعهم من توريث ورثتهم شيئاً من المال، لئلا تتطرق التهمةُ إلى حُجج الله ورسله فلا يبقى في نبوتـهم ورسالتهم شبهة).

وخبر الوصية قاطع في الدلالة على أفضلية وأرجحية الحكم الشوري الاستخلافي الذي قد يصل إلى الوجوب إذا تعيَّن أن نظام الحكم لا يستقيم إلا به كما في زماننا لغلبة فساد الأنظمة التوارثية السلالية، وهو حديث (الصحيحين): (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا)، ثم قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) ، وفي رواية: (لا يطمع في هذا الأمر طامع).

وقد ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن في هذا الحديث نصاً خفيا بالإشارة إلى استخلاف الصدِّيق، وهو قول الحسن البصري وطائفة من المحدّثين، واختاره بكر بن أخت عبد الواحد والبيهسية أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر من الخوارج، واختار أبو العباس بن تيمية وغيره أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم دلَّ الصحابةَ على استخلاف الصّدّيق وأرشدهم إليه بـما همَّ به من كتابة الوصية، وبغيره من النصوص والوقائع كاستخلافه في الصلاة ونحوه، ولهذا قال علي أو غيره: (رضينا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا) يريد إمامة الصلاة.

يتبع 

انظر الحلقة الأولى هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين