فقهُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ (2-5)

أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 

هما ركنان أساسيان، الأول: العلم، والثاني: القدرة.

الركن الأول: العلم

إن العلم بهذا الأمر يشمل أربع مسائل: (العلم بالحكم، والعلم بالوقوع، والعلم بآداب الأمر والنهي، والعلم بمآلات الأمر أو النهي).

1- العلم بالحكم:

ينبغي لمن يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالمًا بالأمر المأمور به أو المنهي عنه، فالعلم إمام العمل كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وأكد هذا المعنى عمر بن عبد العزيز رحمه الله إذ قال: (مَنْ عَبَدَ الله بغير علم ٍكان يفسد أكثر ممّا يصلح) (1)، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (فلا بدّ من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بدّ من العلم بحال المأمور وحال المنهي) (2) وعلى هذا فالأمور التي يؤمر بها أو يُنهى عنها قسمان: 

- ما يستوي في علمه أكثر الناس: 

ويندرج في ذلك ما علم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة والصيام، وحرمة الربا والزنا وشرب الخمر، وتحريم الحلف بغير الله تعالى، وتحريم الظلم والعدوان، وتحريم الاستطالة على الأموال والأنفس والأعراض، هذه المسائل متفق على تحريمها بغير خلاف معتبر، فيجب الأمر والنهي فيها، نفعت الذكرى أم لم تنفع.

- ما كان مختلفًا فيه بين العلماء اختلافًا معتبرًا: وله حالتان:

الأولى: في مسائل الاجتهاد، ما دام الخلاف فيها قائمًا معتبرًا، فلا إنكار فيه مطلقًا، فمن يعمل بأحد هذه الأقوال لا يُنكر عليه، وعليه قعّد العلماء قاعدة (لا إنكار في موارد الاجتهاد)، قال الإمام ابن تيمية: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه) (3)، ويقول في موضع آخر: (وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمةٌ ولا أخوة) (4)، ففي مسائل الاجتهاد لا يسوغ الإنكار بل يجوز الإرشاد والمدارسة لبيان الراجح فيها، إلا إن علم المنكِر أن الفاعل يرى تحريم ما يُنكر عليه.

الثانية: ما كان في دقائق مسائل الشرع التي حسم الخلاف فيها، وأضحى وجه الحق فيها واضحًا عن أهل الاختصاص، فلا يجوز لكل أحد أن ينكر فيها؛ لأنها تحتاج إلى فهم دقيق، ويمكن لأهل العلم والتخصص الإنكار فيها، ومثالها دقائق مسائل الاعتقاد.

2- العلم بوقوع المنكر بحيث يكون ظاهرًا بغير تجسس:

قال الله تعالى: {ولا تجسسوا}، والأصل عدم تتبع عورات المسلمين، قال عمر رضي الله عنه: (إنّ ناسًا كانوا يُؤخذون بالوحي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمنّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال سريرته حسنة)، والناس بعد هذا ضربان: الأول: مستور لم يعرف بشيء من المنكرات، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز كشفها ولا هتكها ولا التحدث بها، والثاني: من كان مشتهرًا بالمعاصي معلنًا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له، فهذا فاجر معلن لا بأس بمتابعته لتقام عليه الحدود.

3- العلم بآدابهما، وأهمها ثلاثة: الرفق، والتدرج، والصبر.

(1) فالرفق: قال سفيان الثوري: (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق فيما يأمر رفيق فيما ينهى، عدلٌ بما يأمر عدلٌ فيما ينهى، عالمٌ فيما يأمر وعالمٌ فيما ينهى) (5)، وهو الأصل في أسلوب الأمر والنهي، وما كان على خلافه فهو الاستثناء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) (6)، وقال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه) (7)، ولهذا قيل: (ليكن أمرك بالمعروف بمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر) (8)، وأمثلة جدوى الرفق في هذا المقام من السيرة النبوية وتراجم المصلحين أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وهو موضوع طويل بالإمكان أن يفرد بالبحث فيملأ الكثير من الصفحات، وهنا أشير إلى نقطة مهمة، وهي أن النهي عن المنكر ليس عقوبة، بل هو إما تذكير (باللسان) أو تغيير وإزالة (باليد)، والأمر والنهي والإزالة حق لكل مسلم بشروطه كما سأبين، وعلى هذا يجب الاقتصار في التغيير على قدر الحاجة، ولكن العقوبة حق للسلطان وحده، ولهذا اشترط العلماء في إزالة المنكر أن يكون موجودًا في الحال فتكون الإزالة تتناول الحال أو الاستقبال، وأما الماضي فتتناوله العقوبة وهي من اختصاصات السلطان، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (كل منكر موجود في الحال، ظاهر للمحتسب بغير تجسس، معلوم كونه منكرًا بغير اجتهاد) (9).

(2) التدرج: والمقصود بذلك معرفة مراتب التعامل مع مرتكب المنكر مثلًا، فإنّ كثيرًا من الناس يقررون الهجر والمقاطعة لأول وهلة، مع أنها ليست المرتبة الأولى في التعامل مع المنكَر عليه، لذا رتب العلماء مراتب التعامل:

الأول: التعريف، لأنّ المرتكب قد يكون جاهلًا والجاهل يُعلّم، وهذا متوقع خاصة في أزماننا هذه، ففي كثير من بلاد المسلمين هناك تجهيل متعمد بالدين، ولا يتلقى الطالب مثلًا إلا معلومات ضحلة عن مبادئ الدين، ويرافق التعريف كما بينت الترفق والتلطف والإرشاد والتوجيه، كل ذلك مجلل بالرحمة والحرص على هذا المرء.

الثاني: الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى، فالمنكَر عليه هنا عالم بالحكم الشرعي، فالتذكير بالله تعالى والتحذير من مخالفته والتخويف من عقوبته من الذكرى التي تنفع المؤمنين كما قال تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [سورة الذاريات: الآية 55]، وليحرص أن يكون ذلك في السر ليعينه على قبولها فلا تأخذه العزة بالإثم، وليدرك أن القصد النصح لا التشهير.

الثالث: التغليظ بالقول، إذا لم ينفع ما ذكر، فلا مانع من إغلاظ القول، لكن ضمن ضوابط الشريعة في خطاب الناس، ويكون ذلك على قدر الحاجة وبحدود ضيقة ولا يقول إلا حقًا، قال تعالى في مثل هذا المقام {فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولًا بليغا} [سورة النساء: الآية63].

 الرابع: التهديد والتخويف، بالتغيير باليد، أو بالإبلاغ عنه إلى من يملك ذلك، أو التهديد بالهجران أو المقاطعة وعدم الزيارة، أو عدم تلبية دعوته وأكل طعامه، ولا يجوز له أن يهدده بوعيد ليس من حقه أن يهدده به، كتحريق بيته أو ضربه، أو ما شابه ذلك.

الخامس: الهجر والمقاطعة، ويكون ذلك عند الإصرار بعد استخدام كل ما سبق، فلا يكون أكيله ولا جليسه ولا زائره، فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنّ الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم قال: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل...} الآية) (10)، وهناك تفصيل للعلماء في مسألة الهجر يحسن الرجوع إليها.

(3) الصبر: فمما ينبغي أن يُعلم أنّ الآمر والناهي لا يتوقع الاستجابة ابتداءً، أو على الأقل استجابةً فورية، فضلًا عن توقع الرد القبيح، الذي قد يصل إلى الأذى باللسان أو باليد، فعند ذلك ينبغي التحلي بالصبر واحتساب الأجر، وأسوأ ما يمكن تصوره في هذه الحالة الندم على ما قام به من الأمر أو النهي، وليعتبر هذا من الابتلاء في نصرة الدين وإظهار الحق والصدع به، وجاء في وصية لقمان لابنه في الكتاب الكريم { يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [سورة لقمان: آية 17]، وقالوا لا بدّ للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتمثل بثلاث خصال: العلم قبله، والرفق عنده، والصبر بعده.

4- النظر في المآلات:

من العلم الواجب لمن يتصدى للأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أن يكون عالما بمآلات ما يقوم به، وذلك أن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، ومن ذلك تحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين، وهذا مقدرٌ بميزان الشريعة، ويكفي في تقدير ذلك اليقين أو غلبة الظن، ذكر ابن القيم أن إنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول المنكر ويخلفه ضده (أي المعروف).

الثاني: أن يقلّ وإن لم يزل بجملته.

الثالث: أن يتساويا، أي يزول المنكر ويعقبه منكر قريب منه.

الرابع: أن يزول ويخلفه منكر شر منه.

قال: فالأولى والثانية مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.

ومثلوا للدرجة الرابعة ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي، بل ونهيه عن ذلك، لئلا يتحدث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه، وكذلك نهيه تعالى عن سب آلهة المشركين مع أنها باطلة حتى لا يسبوا الله عدوًا بغير علم، وذكر ابن القيم مثالًا من فهم شيخه ابن تيمية لهذه القاعدة فقال: (مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنّما حرّم الله الخمر لأنّها تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذراري وأخذ الأموال فدعهم) (11)، ثم ذكر كلامًا نفيسًا فقال: (ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر) (12)، وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلمٍ ونية وإذا تركها كان عاصيًا، فترك الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع) (13).

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري   

تنظر الحلقة الأولى  هنا 

========-

(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية ص68، وورد في مصنف ابن أبي شيبة 7/187 من كلام الحسن البصري.

(2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام ابن تيمية رحمه الله ص68

(3) مجموع الفتاوى 20/257

(4) مجموع الفتاوى 24/173

(5) جامع العلوم والحكم 1/325

(6) أخرجه مسلم عن عائشة في كتاب البر والصلة.

(7) أخرجه مسلم عن عائشة في كتاب البر والصلة.

(8) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام ابن تيمية ص56

(9) إحياء علوم الدين 2/352

(10) تفسير ابن كثير 2/78، وأخرجه أبو داود في سننه في باب الأمر والنهي عن ابن مسعود. وأخرجه البيهقي بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ وَسَائِرَ أَعْمَالِ الْوُلَاةِ مِمَّا يَكُونُ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.

(11) إعلام الموقعين 3/15

(12) المرجع السابق.

(13) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص61

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين