فقهُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ (1 - 5)

الحمد لله حمدًا كثيرًا، شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على سيِّدنا محمَّدٍ وآله وصحبه، وبعد:

فإنّ من أهمِّ تكاليف هذا الدِّين العظيم الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، ولأهميّة هذا المبدأ يكفي أن نعلم أنّ الله تعالى قد أمر به في عدة مواضع في كتابه الكريم، بصيغة الأمر تارة، كقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: آية 104]، وتارة في معرض الوصف بالخيرية، كقوله تعالى: {كنتم خير أمَّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [سورة آل عمران: آية 110]، وتارة بأن هذه المهمة من أعظم مهام الرسالة النبوية، كقوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [سورة الأعراف: آية 157]، وتارة بالوصف المستقر للمؤمنين، كما في قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة التوبة: 71].

بل وامتدح الله بهذه المهمة الأمم السابقة جماعات وأفرادًا فقال سبحانه: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون  يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: آية 114]، وقال في وصية لقمان: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [سورة لقمان: آية 17]، وجعل هذه المهمة من شروط التمكين لهذه الأمة فقال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [سورة الحج: آية 41]، وسأتكلّم حول هذا الركن العظيم من أركان الدين بما يعرف به ويقرّبه إلى واقع الأمة اليوم، من خلال التعرّض لأربعة من أهمّ مسائله، وهي: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى الأمة، أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم مسؤولية الجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخيرًا درجات إنكار المنكر.

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في الأمة

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

هو بالأصل فرض كفاية بشروطه التي سأذكرها، فقد قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: آية 104]، وعلى هذا فهو جائزٌ لآحاد المسلمين بالشروط المعتبرة، لكن نصّ الفقهاء على أنّ فرض الكفاية قد يتعين في حالات، منها على سبيل المثال:

الأولى: إذا كان المنكر في موضع لا يعلم به إلا هو، وكان متمكنًا من إزالته.

الثانية: في موضع ودائرة مسؤولية الإنسان، كالأب في بيته، والمدير في دائرته، كما جاء في الحديث (والرجل راعٍ على أهل بيته ومسؤول عن رعيته) (1).

الثالثة: إذا لم يكن أحد قادرًا على تغييره إلا هو فيتعين عليه.

نستطيع أن نلخص دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أمرين أساسيين هما، الأول: حراسة الدين في واقع الناس، الثاني: تكوين رأي عام فاضل. 

وإن الدافع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلم: الأول: رجاء ثواب الله تعالى، الثاني: الخوف من العقوبة على تركه، الثالث: الغضب لله تعالى أن تنتهك محارمه، وإجلال الله ومحبته وتعظيمه، فهو أهلٌ لأن يُطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، الرابع: النصيحة للمؤمنين والرحمة بهم من أن تنالهم عقوبة الله تعالى.

من خصائص هذه الأمة:

قال الله تعالى في معرض حديثه عن هذه الأمة: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [سورة آل عمران: آية 110]، فلا يسمح لأحد أن يخرج جهارًا على قيم المجتمع الإسلامي، ممّا يحقق السيادة المطلقة لقيم الإسلام، وبذلك تأمن سفينة المسلمين من الغرق في لجج المعاصي والمفاسد الأخلاقية والاجتماعية التي هي سبب الهلاك والدمار والزوال، وتأمن من العقوبة الربانية التي تنزل بالأمة إذا تخلت عن هذا الواجب الاجتماعي الجماعي، لذا نلاحظ أنّ الأمم السابقة استحقت غضب الله ونقمته عندما تركت النهي عن المنكر، فغدا المفسدون يرتعون ويسرحون ويمرحون في قيم الأمة يتلاعبون فيها كما يشاؤون، قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون  كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [سورة المائدة: آية 78 -79]، ولو سلكت هذه الأمة هذا الطريق لحلّ بها ما حلّ بمن قبلها.

المسؤولية الجماعية والحرية المقيّدة:

لا يوجد حرية مطلقة بنظر كل الأديان والمبادئ والمذاهب، فالجميع يقولون بالحرية المقيّدة، ولكن يختلف هؤلاء بتحديد تلك القيود ومن يملك صلاحيات وحق التقييد، فالقيود عند المسلمين دينية شرعية، وعند غيرهم قوانين وضعية، وعلى هذا فالنهي عن المنكر لا يعد تعديًا على الحريات، بل هو تقييد شرعي لها، صحيح أنّ المسؤولية في الأصل هي مسؤولية فردية، لكن المسؤولية الفردية لا تلغي المسؤولية الجماعية، وهذا ما أشكل على كثير من الناس حتى في عصر الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، فقد ثبت أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: (أيّها الناس إنّكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} [سورة المائدة: آية 105] وإنّكم تضعونها على غير موضعها، وإنّي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ النّاس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه) (2).

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

========-

(1) متفق عليه، البخاري في باب تأويل قوله تعالى: "من بعد وصية يوصى بها أو دين" عن ابن عمر، ومسلم في باب فضيلة الإمام العادل عن ابن عمر.

(2) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد في مسند أبي بكر وابن ماجه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين