أبرز مثارات الغلو في فكرنا الإسلامي (5-7)

4.عدم الفهم الدقيق لتروك النبي صلى الله عليه وسلم عند الأصوليين وصلته بمفهوم البدعة

دين الله سبحانه وتعالى يقوم على أمرين:

الأول: أنْ نفعل ما طلبه الله تعالى منَّا أو طلبه رسوله صلى الله عليه وسلم طلبًا جازمًا أو غير جازم، ويشمل ذلك الواجب والمندوب، ويدخل في ذلك ما فعله عليه الصلاة والسلام مما فيه صفة التأسّي لنا به، بحيث يكون داخلًا في التشريع لنا إلى يوم القيامة، وهذا شأن الصلوات والزكوات والصدقات وبر الوالدين وحسن الجوار والأمر بالمعروف وأمثالها.

الثاني: هو أنْ نترك ما نهانا عنه ربنا أو نهانا عنه رسوله صلى الله عليه وسلم نهيًا جازمًا أو غير جازم، ويدخل في ذلك المُحرَّم والمكروه، ويدخل في هذا النهيُ عن الكذب والسرقة والزنا وشرب الخمور وشهادة الزور وموالاة الظالم والتقاعس عن نصرة المظلومين.

لكن أنْ نفعل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنَّ صحابته الكرام فعلوه قد يكون من مثارات الغلو، ويدخل هذا عند البعض في مفهومُ البدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: - فيما رواه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث الْعِرْبَاض بن سَارِيَة السّلمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ((عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديّين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ، وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل بِدعَة ضَلَالَة)) قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح (1).

يقول ابن رجب الحنبلي: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) فكل من أحدث شيئا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يُرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة) (2) ، ويقول ابن حجر: (والمحدَثات بفتح الدال جمع محدَثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودًا أو مذمومًا، وكذا القول في المحدثة، وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (3).

فلو أخذنا مثالًا على ذلك الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هو داخلٌ في مفهوم البدعة؟ - مع أنّي لا أراه كذلك- وهل للاحتفال أصلٌ في الشرع؟ أو ليس له أصل؟ وما صلة هذا بقضية التُّروك عند الأصوليين؟ وليس الموضع هنا مناقشة المسألة وتبيان الراجح، وإنما التنبيه على أنّ هذا من مثارات الغلو، حيث يصل الأمر إلى التراشق بالتبديع والتضليل وترك سُنَن النبي صلى الله عليه وسلم أو الاتهام بالجهل وجفاء المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدم الاحتفال بمولده، ويكفي أنّ هناك عشرات من الكُتُب بين الطرفين في مثل هذه المواضيع، وكان بالإمكان أن تصرف جهود الكتابة والتأليف إلى باب آخر مما يحتاجه المسلمون أكثر من الدخول في مثل هذه القضايا.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الرابعة هنا 

(1) ابن حجر العسقلاني، البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير، تح: دار الهجرة للنشر والتوزيع - السعودية، الطبعة: الأولى، 1425هـ-2004م، ج9، ص 582 

(2) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، تح: شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: السابعة، 2001م، ج2، ص 128 

(3) ابن حجر، فتح الباري، ج13، ص 253

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين