أبرز مثارات الغلو في فكرنا الإسلامي (2-7)

مثارات الغلو (1)

1. مفهوم الولاء والبراء وصلته بالعقيدة:

جاءت نصوص كثيرة من القرآن والسُّنة تبيّن أنَّ الولاء يكون بين المؤمنين لله ولرسوله وللمؤمنين، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [سورة المائدة: آية 55] وقوله سبحانه وتعالى في قطع الولاء عن غير المسلمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة: آية 51].

تُعَدُّ هذه الآية الأخيرة هي الأشدُّ دلالة في قطع الولاء إلا مع المؤمنين، بمقابل ذلك نجد الولاء غير مُرتبط بالإيمان في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الأنفال: آية 72]، حيث ربط الله تعالى بين الولاء وبين الهجرة، فمن لم يهاجر فهو مؤمن، لكن ليست له الولاية إلا بالهجرة إلا في حالات خاصة هي طلب النَّصرة، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (فبيَّنَتْ حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان، وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبري من ولايتهم حتى يهاجروا) (2)، ومن الواضح في الآيات السابقة أنَّ غير المسلمين يوالي بعضهم البعض أيضًا.

مفهوم الولاء والبراء تحوَّل في أيامنا إلى خانة المفاهيم العَقَدية، كالإيمان بالرسُّل والكتُب، وصار عند كثيرين مِفصلًا للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، بل بين المسلمين أنفسهم، فكثيرًا ما يُكفَّر المسلم بأنَّ ولاءه لغير الله أو لغير إقامة حكم الله تعالى، ومن الملاحظ أنَّ بعض الكتَّاب المعاصرين يجعلون دلالات هذا المصطلح من أسس العقيدة وأصولها، من غير البحث في الدلالات القرآنية، ومدى انطباقها على الحالات المعروضة، ويُطْلقون لسانهم بتكفير الآخرين استنادًا إلى هذا المصطلح. 

ليس القصد هنا ضبط مفهوم الولاء والبراء، وذكر النصوص الدالة على ذلك، ولكنْ من الثابت أنَّ مصطلح الولاء والبراء مصطلح فضفاض، يحتاج إلى ضبط من سياقات النصوص القرآنية، وعلاقة هذا المصطلح بمصطلحات أخرى كالبِرِّ والمودة والإحسان والمحادَّة والكُره والمحبة، وعندما نرجع إلى كُتُب العقيدة في بواكيرها الأولى، ككُتب أبي الحسن الأشعري (ت:324) والماتريدي (ت:333) والطحاوي (ت:321) وما بعد، نجدها لا تتعرض لهذه القضية، مما يجعلنا نعرض السؤال الآتي: ما الذي جعل أولئك الأوائل يُعرضون عن هذا المصطلح في حين يهتم به المتأخرون من المعاصرين؟ بل يجعلون من مفهوم الولاء والبراء أساسًا من أُسُس العقيدة؛ إذ أُلِّفت كتبٌ كثيرة في الولاء والبراء تجعل هذا المصطلح بإطلاقاته من أُسُس العقيدة، وناقضًا من نواقضها، ولمَّا كانت دلالة هذا المصطلح فيها معنى التّناصر بين المسلمين، كانت مظاهرة المشركين على المسلمين ناقضًا من نواقض الإسلام عند بعض المعاصرين، تحت مُسمَّى الولاء والبراء، جاء في شرح هذا الناقض، (الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين: ومن فعل ذلك فقد كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة: آية 51] قال العلامة الفوزان في شرحه للنواقض: الشيخ رحمه الله تعالى أخذ نوعًا واحدًا من أنواع موالاة الكفار، وهو المظاهرة، وإلا فالموالاة تشمل المحبة بالقلب، والمظاهرة على المسلمين، والثناء والمدح لهم، إلى غير ذلك) (3).

فاعتبارُ مظاهرة المشركين ومناصرتهم على المسلمين كُفْرٌ من غير تفصيل ليس صحيحًا، فالموالاة أنواعٌ، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: (والموالاة تكون بالظاهر والباطن، وبالظاهر فقط، وتعتوِرها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال، الحالة الأولى: أن يتخذ المسلم جماعة الكفر أو طائفته أولياء له في باطن أمره، ميلًا إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين) (4).

وهذه هي الحالة الوحيدة المُكفِّرة، بينما كثير من كُتُب المعاصرين تُعمِّم الحكم، وما قاله الشيخ الطاهر رحمه الله متناسق مع عقيدة أهل السنة والجماعة، فمنهاج أهل السنة هو عدم البراءة إلا مما تجب البراءة منه، يقول الإسفراييني (ت471ه): (إن أهل السنة مجتمعون فيما بينهم، لا يكفر بعضهم بعضًا، وليس بينهم خلاف يوجب التبريء والتكفير) (5).

ومما يؤسف له تعميم مفهوم الولاء والبراء حتى شمل الاحتفال بـ (عيد الأم أو عيد الحب، أو عيد النيروز وما شابه من أعياد الكفر... فالاحتفال بها حرام كلمة واحدة؛ لما في ذلك من تضييعٍ لثوابت الإسلام، وإضعافٍ لوازع الدين في نفس المسلم، وإلغاء لهويته وضياع أصل الولاء والبراء، وإقرار ما عليه النصارى أو اليهود أو غيرهم من ملل الكفر من الباطل) (6).

ولا يُفهم من هذا البتة أنّنا ندعو للاحتفال بهذه الأعياد، لكن ليس من المقبول القول بأنَّ الاحتفال بعيد الأم هو إقرارٌ لِما عليه اليهود والنصارى وتضييع لثوابت الدين، فهو عند كثيرين- وإنْ كان مصدرُ الفِكرة خارجي- لا ينظر إليه بمنظار عَقَدي، وإذا أردنا البحث عن حُكمٍ دقيق يجب أن نتعرَّف على الأسباب الحاملة على هذا الاحتفال، وهذا لا يعني البتة تحسين هذا العمل أو تجويزه، ويمكن أنْ يكون التَّصرف مُخرجًا عن الملّة كَمَن نشأ بين المسلمين، واحتفلَ بعيدٍ ما، وهو يعتقد أنَّ هذا العيد المُحتَفَل به هو أفضلُ من الأعياد التي شرعها الله تعالى، وإنما الذي يعنينا هو التَّوقف عن إعطاء أحكامٍ شاملة قاطعة تحت مُسمّى الولاء والبراء. 

وقد ذكرنا سابقا أنَّ مصطلح الولاء والبراء لم يكن من أصول الدين عند أهل السُّنة في الكتب التي وصلت إلينا، ومن اللافت للانتباه أنَّ أوَّل من وصلَنا قوله بالبراءة هم الأزارقة، وهم أشد الخوارج غلوًّا، أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق، وهو أول من أحدث الخلاف في الخوارج، فقال في بدء الأمر بالبراءة من القَعَدة الذين لم يهاجروا إليهم وكفَّرهم، ووصل الأمر لشدة غلوهم إباحة قتل أطفال المخالفين والنساء (7)، وكذلك عند الفرق الباطنية، فالطُهْر عند الباطنية: (هو التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام) (8).

ويُلاحظ أنّ مصطلح الولاء والبراء هو الأساس الذي انطلقت منه تنظيمات القاعدة وداعش، في تعاملها مع المسلمين، ترويجًا لأفكارهم وتغريرا بالشباب المسلم، إذ الولاء عندهم هو الوقوف والمساندة والمناصرة لِمَا جاؤوا به، والبراء يُطلقونه على كُلِّ من خالفهم في توجُّههم، وأكثر هذه الإطلاقات كانت على المسلمين، والبراء في النتيجة لا يكون إلا من كافرٍ، ليُصبح المجتمع- كُلُّه أو أغلبه- في النتيجة كافرًا.

إن اعتبار الموالاة ناقضًا من نواقض العقيدة على إطلاقه مخالفٌ لما عليه أهل السنة والجماعة، وكلُّ من درس أمور العقيدة يُفرّق بين الفعل الظاهري، والفعل القلبي المرتبط بالمحبة، وعقيدة أهل السُّنة عدم التَّكفير بالفعل مالم يكن مُستحلًا له أو مستخفّا أو مستهزئًا مما عُلِم من الدين بالضرورة.

فما هو ضابط الولاء والبراء؟ وما أنواعه؟ وكيف يتم التكفير به وجزء منه عملي؟ ومعلوم أن العملي فيه من الغموض ما ليس في القول!

من هنا تأتي ضرورة دراسة مصطلح الولاء والبراء بمختلف صِيَغه الصّرفية وسياقاته القرآنية حيث وَرَد، واستجلاء الدلالات المأخوذة منه في ضوء اللغة والسياق القرآني وفهم المفسرين، وعلاقة الولاء والبراء بالمحبة والكره والبُغض والمودَّة والمحادَّة، ومن ثَمَّ المقارنة والمقاربة بين هذه الدلالات وبين كُتُب الكلام والعقيدة تبيانًا لدلالاته، والإجابة عن هذه الأسئلة ليست مقصودة لنا هنا، وإنما كان المقصود التنبيه على أنَّ الولاء والبراء من مثارات الغلو في فكرنا الإسلامي، وأن الحذر والتأني واجب عند التعامل مع هذه المسألة وتطبيقها على واقع المسلمين.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الأولى هنا 

(1) ليس المقصود هنا هو الحصر، بل ذكر أبرز مثارات الغلو.

(2) محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر:10/ 85، وانظر: فخر الدين الرازي خطيب الري، تفسير الرازي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420ه، 15/ 517

(3) شرح نواقض الإسلام لشيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب، تأليف أبي عبد الله ناصر بن أحمد بن علي العدني، مكتبة الإمام الوادعي صنعاء، دار عمر بن الخطاب مصر، ص:96

(4) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير الدار التونسية للنشر – تونس، 1984 هـ، 3/ 217

(5) الإسفراييني، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، ص:186

(6) شعبان محمود عبد القادر البركاتي المصري، الولاء والبراء في الإسلام، دار الدعوة الإسلامية، الطبعة: الأولى، 2012 م، ص:45

(7) الشهرستاني، الملل والنحل، دار المعرفة، ص117، الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م، 3/ 359

(8) الشاطبي، الاعتصام: 2/ 75

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين