أبرز مثارات الغلو في فكرنا الإسلامي (1-7)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

فِكرة البحث:

الملاحظ لواقع الأمة الإسلامية يجد شيئا يُدمي القلب من الاختلاف السياسي والفكري، والارتماء بأحضان الآخرين، وقد ولّد هذا الوضع هزيمة فِكرية في النفوس، وشعورًا عند كثير من أبناء الأمة، ولا سيما الشباب، بعدم الثقة بفهمنا لديننا، إنْ لم نقل عدم الثقة بالدين ذاته من بعض الشباب.

ومن الملاحظ أنّ أكبر عوامل الهدم في هذه الأمة، هو الاختلاف الفكري بين أبنائها منذ حصول الفتنة بمقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى وقتنا الحاضر، وهو واقع يرتضيه أعداؤنا ويبذلون كُلَّ شيء في سبيله.

وأبرز هذه العوامل الغلو في الدين الذي تمثَّل بالخوارج في عصر الصحابة رضي الله عنهم وصولًا إلى ظهور الغلو في أبشع صوره على يد غلاة العصر داعش وأمثالها.

ومن هنا فإنَّ البحث يحاول رصد أبرز المسائل التي أثارت الغلو في فِكرنا وما زالت تثيره. 

الغاية من البحث:

السعي من أبناء الأمة للوقوف على المسائل التي أثارت وتُثير الغلو، بغية درسها بتجرد تامٍّ من كل الأسبقيات الفكرية للوصول إلى رأي يُلتَفُّ حوله، يكون بمنزلة العاصم من انزلاق الأمة نحو الغلو أو البقاء في مستنقعاته.

ومن الجدير التنبيه على أنَّ جُلَّ هذه المسائل لا تُثير الغلو بحد ذاتها، وإنما الفهم السطحي لها، أو البعد عن المقصد الشرعي منها، ومن هنا يقتضي الأمر الاعتناء بهذه المسائل جُهد الاستطاعة لإبعاد أيِّ شُبهة يمكن التّعلُّق بها.

ومن الواضح أنّ الغاية هنا ليس خلط مفهوم أهل السَّنة مع غيرهم، وليس الغاية التّنازل عن المعتقد، أو تغييره، أو إخفاؤه، فهذا ليس واردًا وليس مقصودًا، فأنا على سبيل المثال أتبنَّى الفكر الأشعري، ولكنْ لا يعني هذا أنَّ أسير وراءه في كُلّ مسائله، ولا يعطيني هذا التَّبني التَّضليل لمعتقد غيري، أو تكفيره، أو اتهامه بأنه يسعى إلى تقويض الدين، ما دام صاحبه حريصًا على الدين من خلال كُتُبه ومقالاته، ولم يُفض مُعتقده لرد نصٍّ قطعي الثبوت والدلالات، وكذا ليس المقصود هنا التَّخلص من بعض أو كل أسباب هذه المثارات، فهذا شيء يبعُد في ظل نصوصٍ - في بعض المسائل- ليست قطعية الثبوت والدلالة، ووجه الاختلاف فيها سائغ، وإنما الهدف الاهتداء إلى عاصمٍ من الانزلاق إلى التضليل والتفسيق والتكفير كمخرجات لبعض هذه الخلافات، وهو ما لاحظناه في بعض كُتُب الفرق. 

ومن الواضح أيضا أنَّ هذه المسائل هي خلافية بحد ذاتها، لكنَّ الغلو يكون أثرًا من آثارها، ولا يقتصر الأمر على الاختلاف في الرَّأي.

نماذج من الغلو: 

سآخذ نموذجين أراهما من الغلو الذي ينبغي أنْ نجنِّب أمتنا منه، أحدهما منتمٍ للفكر السُّنيّ والآخر منتمٍ للفكر المعتزليّ، وهذا لا يعني البتة الغلو في بقية أفكارهما، فهو بحكم المسكوت عنه.

النموذج الأول:

هذا النموذج للمُحسن بن محمد بن كَرَّام، المعروف بالحاكم الجُشَمي الزَّيدي المعتزلي المقتول سنة (393ه) والذي كان معاصرًا لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، وقد عُرِف بشدّته على معتقد أهل السنة، وألَّف في ذلك كتابا سمّاه "رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس" وقيل اسمه "رسالة إبليس إلى إخوانه من المجبرة والمشتبهة في الشكاية من المعتزلة"، وقد كان الكتاب سببًا في قتله. 

وإخوان إبليس في نظره هم من كان على عقيدة أهل السُّنة، ومما جاء في هذا الكتاب في مخاطبة إبليس إخوانه من أهل السّنة وعلى رأسهم الأشعرية، محُذِرّا أتباعه من مجالسة المعتزلة خشية الافتتان بحديثهم (ولقد علمتم إخواني أنَّ من الواجب في الدين نصيحة الإخوان والأتْباع، وبذل الأمانة للأشياع، ألا إني أبلغكم ما لا تعلمون، وأنصح لكم وأنا ناصح أمين، فاجتنبوا مجالسهم ومدارسهم، ولا تستمعوا إلى كلامهم ومواعظهم، وجنبوا أشياعكم وعوامكم، ونساءكم وصبيانكم، فإنَّ لكلامهم حلاوة، وعليه طلاوة، تُحَيّر ذوي الألباب، وتدخل في القلب بلا حجاب، ومن عظيم فتنتهم أنْ سموا أنفسهم بالموحِدة العدلية، وسمُّونا بالمُجبرة) (1).

والتَّدليس في العبارة الأخيرة واضحٌ "وسمُّونا المجبرة" لأنَّ المعتزلة يُطلقون لفظ المُجبرة على أتباع جهم بن صفوان، وعلى الأشعري وأتباعه؛ لأنهم يقولون بأنّ الله يخلق أفعال العبد، وأنَّ ذلك في نظر المعتزلة يؤدي إلى الجبر، والفرق كبيرٌ بين نَظرة جهم بن صفوان (ت:128ه) وبين نظرة أبي الحسن الأشعري (ت:324ه) وأتباعه، فالأول يُجرّدُ الإنسان من أعزِّ شيء ميزه الله به وهو الإرادة والقُدرة ليُصبح مماثلًا للجمادات، ولا تُنسب للإنسان القُدرة إلا مجازًا كما تُنسب للجمادات، فُيقال تحركتِ الشَّجرة وهبَّت الريحُ (2)، وأما مقولة أبي الحسن الأشعري وأتباعه بأنَّ الله يخلق أفعال العباد فلا يترتّبُ عليها الجبر، لأنَّ خَلْقَ الله للفعل لا يستلزم جبر الإنسان، فالإنسان يملك إرادة وقُدرة في التَّوجُّه نحو هذا الفعل (3)، والله يخلق الفعل عند هذا التَّوجه، وهذا ما يُسمّى بنظرية الكسب، وتفصيلها في كُتُب الكلام.

النموذج الثاني:

بعض العبارات الموجودة في كُتُب أهل السُّنة من أهل الحديث والكلام، من ذلك ما نجده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (414ه) المعاصر للبغدادي وللحاكم الجُشَمي، فقد نقل اللالكائي رحمه الله عن بعضهم أنه قال: (من قال القرآن مخلوق يُفرَّق بينه وبين امرأته بمنزلة المرتد) (4) ، بل نقل عن ثُلَّة من كبار العلماء أنَّ حكم من قال بذلك: (أنهم لا يُنكحون، ولا يُصلى خلفهم، ولا تُعاد مرضاهم، ولا تُشهَد جنائزهم، وأنَّ موالاة الإسلام انقطعت بينهم وبين المسلمين) (5) ، وبعضهم قال عن الجهمية: (كفار ولا يُصلَّى خلفهم) (6) ، وفي حوادث سنة 409 من شهر المُحرم يذكر الذهبي (ت:748ه) أنه (قُرئ بدار الخلافة كتاب بمذاهب السُّنة، وفيه: من قال: «القرآن مخلوق» فهو كافر حلال الدم، إلى غير ذلك من أصول السنة) (7).

ومع جزْمي بتخْطئة المخالفين لأهل السُّنة من جهمية وغيرهم، لكنِّي لا أرى أنَّ ما ذُكِر هنا يُمثِّل أصول أهل السُّنة في حُكمهم على الآخرين.

مُحدِّدات البحث وإطاره:

عنوان البحث مرتبط بما يُمكن أنْ يُفهَم خطأ ويكون منطلقًا للغلو، وعليه لن أتعرض هنا لتعريف الغلو وتاريخه والممارسات التي يرتكبها الغلاة، وآثار ذلك في أمتنا، ولاسيما في الوقت الراهن، فالحديث عن هذا حَفَلَتْ به كتبٌ، وعُقِدت له مؤتمرات، وهو الشغل الشاغل اليوم، ومن هنا قصدتُ التركيز على أبرز مثارات الغلو في فكرنا الإسلامي. يتبع

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

 

( ) الحاكم الجشمي، رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس، تح: حسين المدرسي، ط. دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط. الأولى:1415هـ/1995مـ. ص:10

(2) الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة - بيروت، 1404هـ، ص:85

(3) الأشعري، اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع تح: حموده غرابة، مطبعة مصر، 1955، ابن فورك مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري، تحقيق: دانيال جيماريه، قبرص، ص:100 

(4) أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي، تح: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة – السعودية، الطبعة: الثامنة، 1423هـ / 2003م 2/ 354 

(5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ص:354 

(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ص:355

(7) الذهبي، تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام التدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة: الثانية، 1993م، 28/29

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين