إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي (5)

ولابن خلدون رأي في انتشار المذهب المالكي في بلاد المغرب، جاء فيه:

(وأما مالك رحمه الله تعالى، فاختصَّ بمذهبه أهلُ المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنَّهم لم يُقلِّدوا غيرَه إلا في القليل، لما أنَّ رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز، وهو مُنتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ من علماء المدينة وشيخهم يومئذ، وإمامهم مالك وشيوخه من قبله، وتلميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس، وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته. 

وأيضاً فالبداوة كانت غالبةً على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزلْ المذهب المالكي غضّاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، كما وقع في غيره من المذاهب. ولما صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريعها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقرَّرة من مذهبِ إمامهم، وصار يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدرون بها على ذلك النوع من التنظير، أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيها ما استطاعوا، وهذه الملكة هي علم الفقه) [محمد أبو زهرة: مالك، ص 233].

والحق أنَّه مع التسليم بداية بعبقرية ابن خلدون وسداد رأيه في كثير من المسائل التي تضمَّنتها مقدمته، إلا أنَّ الصواب قد خانه بعض الشيء في بعض تفسيراته هنا، فأهل الحجاز، وبعد ما يقرب من قرن من الزمان يصعب تقبُّل الرأي بأنهم كانوا أميل للبداوة، وكيف يستقيم ذلك وهو يقول في النصِّ نفسه: إنَّ المدينة كانت (دار العلم)؟ وكيف انتقل المذهب المالكي إلى العراق من المدينة، إذا كانت الأولى بيئة حضارة، والحجاز بيئة بداوة؟ وكيف تأتي للمذهب المالكي أيضاً أن يعرف طريقه إلى مصر، وهي أرض حضارة لا بداوة؟!

ولسنا في مقام أن نبرهن على خطأ تحليل ابن خلدون في ضعف قدرة أهل المغرب على الاجتهاد والقياس، وقِلَّة جُهدهم في التنظير والتجديد في المسائل الفقهيَّة، إذ لا ندعي علماً كافياً في هذا الشأن، ولكننا، وبالنسبة إلى الجهد الفكري التربوي، نرى اجتهادات واضحة سوف نَعرِض لها في حينها، ويكفي أن نشير فقط إلى واحدة من أكثر الأفكار الاجتهاديَّة عبقريَّة وتجديداً، تلك التي ناقشها الفقيه المالكي المغربي القابسي، والخاصة بقضيَّة الإلزام في التعليم.

وإلى جانب الفقهاء المربين من المنتمين للمدرسة المالكيَّة في بلاد المغرب، نشير إلى ابن عفيف [محمد أبو زهرة: مالك، ص 236]، أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف بن مريول ابن حاتم بن عبد الله الأموي (348 - 420هـ)، فهو لم يكتفِ بالعناية بالفقه، وإنما بَرز كذلك في علوم أخرى آخذاً منها بنصيب وافر، ومال إلى الزهد ومطالعة الأثر والوعظ، فكان يعظ الناس بمسجده بحوانيت الريحاني بقرطبة ويعلم القرآن فيه، وكان يقصده أهل الصلاح والتوبة ويلوذون به، فيعظهم ويذكرهم، ويخوِّفهم العقاب ويدلهم على الخير، وكان رقيق القلب، غزير الدمع، حسن المجادلة، مليح المؤانسة، جميل الأخلاق، حسن اللقاء، وما يُلفت نظرنا الإشارة إلى أنَّه جمع كتاباً حسناً في (آداب المعلمين، أو المتعلمين)، وهو في خمسة أجزاء لم نسعدْ بالاطلاع عليها.

وكان أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد (450 - 520هـ) - جد الفيلسوف المعروف - أنبه فقهاء المالكية ذكراً في عصره، وقد تولى قضاء الجماعة في قرطبة، إذ كان فقيهاً عالماً حافظاً للفقه مقدماً فيه على جميع أهل عصره، عارفاً بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيراً بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم، نافذاً في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم، مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن والهدي الصالح، وكان صاحب الصلاة في مسجدها الجامع [مقدمة ابن خلدون].

وبقراءة عناوين عدد من الكتب التي صنَّفها بعض الفقهاء المالكيَّة، في بلاد المغرب الإسلامي الذي نقتصر على دراسته، يمكن لنا أن نلمس طابعها (التعليمي)، صحيح أنَّ كل كتاب هو للتعليم ونشر العلم بين طلاب المعرفة، لكن أمثلة لكتابات فقيه مثل محمد بن أحمد بن حرب المتوفى سنة 741هـ تؤكد لنا ما نقول، فقد كان معنياً بأصول الدين والفقه، علاوةً على تحققه بالعربيَّة والأدب، وله مؤلفات مثل: (كتاب الأنوار السنيَّة في الكلمات السُّنية)، و(كتاب في تهذيب صحيح مسلم)، و(كتاب الدعوات) في مجلدين، و(كتاب الفوائد الفقهيَّة في مذاهب المالكيَّة والشافعية والحنفية والحنبلية) في ثلاثة مجلدات، و(كتاب في قراءة نافع وغير نافع)، و(المختصر في لحن العامَّة)... الخ [مقدمة ابن خلدون].

ونجد لأحد الفقهاء موقفاً مُذهلاً حقّاً في شدَّة الحرص على مقام المجالس التعليمية، والمحافظة على كرامة العلماء، أمام أصحاب السلطة والنفوذ هو من أكثر الدروس التربويَّة عمقاً ودلالة، فقد روى الفقيه أبو القاسم بن مفرج:

(كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم - رحمه الله تعالى - فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية، فإني لعنده بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان، الذي كان يصلي به قرب داره، بجوفي قصر قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، وذلك بين الصلاتين، إذ دخل عليه خصي من أصحاب الرسائل، جاء من عند الخليفة الحكم، فوقف وسلم، وقال له: يا فقيه، أجبْ أميرَ المؤمنين أبقاه الله، فإنَّ الأمرَ خرج فيك، وها هو قاعد يَنتظرك، وقد أُمِرتُ بإعجالك، فالله.. الله!

(فقال له: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة، فارجع إليه، وعَرِّفه، وفَّقه الله عني، أنك وجدتني في بيتٍ من بيوت الله تعالى، مع طلاب العلم، أسمعهم حديثَ ابن عَمِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يُقيِّدونه عني، وليس يمكنني تركُ ما أنا فيه حتى يتمَّ المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته، فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة، فإذا انقضى أمرُ من اجتمع إليَّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله تعالى، الساعين لمرضاته، مشيت إليه إن شاء الله تعالى، ثم أَقْبَلَ على شأنه....)! [بالنثيا، آنخل جنثالث: تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، طبعة مصورة عن الطبعة الأولى (1955)، ص 423].

ومن الملاحظ أنَّ بعض فقهاء المالكية بالمغرب لم يقتصروا على التعليم الفقهي، وإنما امتدَّت ساحة التعليم لديهم إلى آفاق معرفيَّة أخرى، وخاصَّة في مجالات الأدب واللغة والتاريخ، وكذلك امتدَّت ساحة التعليم لديهم بما استطاعت أن تصل بهم إليه ظروفهم وجهودهم، فإذا بهم يُعَلِّمون في أكثر من موطن، اتساقاً مع ما تميَّز التعليم الإسلامي في عصور الحضارة الزاهية، فمع ظهور الدول الإقليميَّة المستقلَّة، إلا أن هذا لم يمنع عالماً من أن ينتقل إلى منطقة أخرى طلباً للعلم، أو سعياً للتعليم.

فهناك على سبيل المثال أبو حيان الغرناطي، خرج من الأندلس عام 679هـ، واستوطن القاهرة بعد حَجِّه، وأصبح إمام النحاة بالديار المصريَّة، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصوريَّة، وتولى التفسير بها أيضاً، والإقراء بالجامع الأقمر، انتهت إليه رياسة التبريز في علم العربية واللغة والحديث، وكانت له تصانيف سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت، ونسخت وما (فسخت)، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة أشياخاً في حياته، وهو الذي جسر الناس على مصنفات مالك ورغَّبهم فيها وفي قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مُقْفلها. [بالنثيا، آنخل جنثالث: تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، طبعة مصورة عن الطبعة الأولى (1955)، ص 427].

وكان علماء الفقه المالكي، في عملية التعليم، مثل الجمهرة الكبرى من علماء الفقه الإسلامي في مختلف المذاهب، لا يتقيدون بسنٍّ معينة في ممارستهم لمهنة التدريس، إذ لم يكن ثمة قانون يحددها، ولا قاعدة تحكمها، وكل من يرى في نفسه الكفاءة ليكون أستاذاً يمكن أن يمارس المهنة في الحال، والطلاب وحدَهم هم الذين يُقرِّرون حظَّه من الفشل والنجاح، وحتى الطلاب أنفسهم يستطيعون أن يَتبادلوا الدروس فيما بينهم، وأن يصبح بعضهم أستاذاً للآخرين. وإذا كان احتراف التدريس لا يتوقف على سنٍّ مُعينة، فهو أيضاً لم يكن يتطلب أية إجازة علميَّة، وحتى إذا طالب بهذه مُتشكِّك أو مُتردِّد، فمن السهل تقديمها له ما دام المدرس قد حضر دروس المادَّة على أي أستاذ؛ لأنَّ الأساتذة هم الذين يَمنحون الإجازات لطلابهم عندما يَنتهون من دراسة المادة، أو الكتاب المحدَّد، ولكن العادة جرت بألا يكون للأستاذ حلقة معروفة يتردَّد عليها طلاب كثيرون إلا عندما ينضج سنّاً، وينال مع الزمن شهرة مُسْتفيضة، ويتردَّد اسمه في الأسماع وعلى الألسنة، ويقتنع جيلٌ كامل بفضائله. [بالنثيا، آنخل جنثالث: تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، طبعة مصورة عن الطبعة الأولى (1955)، ص 429].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

الحلقة الرابعة هـــنا

[وللبحث تتمة في الجزء التالي]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 107، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة 1423 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين