إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي(4)

وعندما نتأمَّل ما عَرضنا له من أمثلة لمواقف تعليميَّة مَرَّت بالإمام مالك، فإننا نستطيع أن نستنبط، بالإضافة إلى ما سبق أن أشرنا إليه:

1- أنَّ العلم في هذه الفترة كان يُؤخذ بالتلقِّي المباشر من يَنَابيعه الممثَّلة في كبار العلماء، وليس عن طريق القراءة في كتب مَسطورة، والتلقي المباشر من أفواه العلماء طريق في التعلم يَقف موقف الصدارة في طرق التعلم وأساليبه، ففيه التفاعل بين المعلم والتلميذ، وفيه الاتصال المباشر، وما يُضيفه هذا من حيويَّة وحميميَّة، وفرصة للمراجعة المتصلة للتصويب والتصحيح، وفيه هذه الأبعاد الإنسانيَّة مما يَسري من مشاعر وعواطف لا ترى، لكن لها دورها في تعزيز مَوضوع التعلم.

2- أنها تشير إلى أنَّ العلماء قد بَاشروا في تدوين العلم، بعد أن كان المتعلمون يعتمدون فقط على الذاكرة بحكم طبيعة البيئة والثقافة والمجتمع في شبه الجزيرة العربية، والتدوين خطوة جبَّارة على طريق التعلم والتعليم، والمعرفة على وجه العموم، بل إننا لنذكر القارئ بأنَّ التاريخ إنما يَبدأ بدقة أكثر عند بدء التدوين والكتابة، حيث يمكن الضبط وأن يَراه أكثر من واحد فيكون الحكم أقرب ما يكون إلى الموضوعيَّة.

3- أنَّ مالكا رضي الله عنه كان دؤوباً على طلب العلم، فقد صرفَ نفسه إليه في جدٍّ ونشاط وصبر لا تمنعه شدَّة الحرِّ والجو اللافح من أن يخرج من منزله، ويترقَّب أوقات خروج العلماء من منازلهم إلى المسجد، ولا تمنعه حِدَّة بعضهم من أن يأخذ عنهم ويتحمَّل غلظة اللوم أحياناً ويتجنَّب بهدوئه وكياسته ورفقه أن يثير حِدَّتهم بقدر المستطاع. [محمد أبو زهرة: مالك، ص 38].

وعن طريق غير مباشر، وضع مالك أسساً مهمة للمعلم في موقف التعليم، فالبعض يتصوَّر أنَّ المسألة المهمَّة هي المادة العلميَّة التي يتحدَّث فيها المعلم، وهي كذلك الطريقة التي ينقل بها ما يُعلِّمه إلى التلاميذ، لكن ما لا يقلُّ عن ذلك أهمية، (هيئة المعلم)، فالمعلم تتعلق به أبصار العديد من طلاب العلم، ومن هنا يجب أن تقع أعينهم على هيئة نظيفة مقبولة على قدر معقول من حسن المنظر، فتلك مسائل ليست شكليَّة هامشيَّة كما قد يَتبادر إلى أذهان البعض، وإنما لها دورها في عملية (التهيؤ) للتعليم وحسن تقبل ما يُلقيه المعلم.

كذلك فإنَّ المعلم أمام أنظار المتعلمين نموذج ومثل أعلى، ولا يتفق مع هذا أن يكون المعلم على غير وقار وسكينة وجديَّة، ونحن إذ نشدِّد على هذا وننبِّه عليه نسجل وعينا بأنَّ هناك فرقاً بين الجديَّة والوقار والسكينة وبين الشخصيَّة التي تألف العبوس والجهامة على الوجه، ومظاهر الجفاء، والتعامل مع الآخرين من منطلق التعالي والأنفة.

فمن ذلك ما حدَّثوا عن إظهار مالك التجمُّل بعامة، وأنه - على سبيل المثال - كان إذا أصبح لبس ثيابه وتعمَّم، ولا يَراه أحد من أهله ولا من أصدقائه إلا مُتعمِّماً، لابساً ثيابه، وما رآه أحد أكل وشرب حيث يراه الناس.. هذا مع أنَّ مألوف الناس عادة أن يتخفَّفوا في بيوتهم [أمين الخولي: مالك، ص 230].

وحدَّثوا كذلك عن إيثاره السكون، وقلَّة الحركة، حتى بالمشي، ولعلَّ هذا يكون راجعاً إلى ما كان عليه من مَيلٍ إلى العُزلة، وتحاشي مخالطة الناس إلا بقدر ما هو ضروري، ومن هنا يجيء قوله ذي المغزى: (ينبغي للعالم ألا يتولى شراء حوائجه من السوق بنفسه، وإن كان يقع عليه في ذلك نقص في ماله، فإن العامَّة لا يعرفون قدره) وقال بالفعل: (حقٌّ على طالب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة)، وقال كذلك: (من علم أنَّ قوله من عمله قلَّ كلامه)[ أمين الخولي: مالك، ص 231].

ويضع الإمام مالك بعضاً من أسس التعلم والتعليم، وكأنها دستور التربية الإسلاميَّة في صورتها التنفيذيَّة لما رسمه القرآن الكريم وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمن ذلك مثلاً، ضرورة التريُّث في طلب العلم، لا بمعنى التباطؤ، ولكن بمعنى التأني والحرص، والبُعْد عن العَجَلة في التحصيل، ومن هنا يجيء قول أحد تلاميذه: (عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوماً، فقال: كتابٌ ألفتُه في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً؟ ما أقلَّ ما تفقهون ؟![ ابن عبد البر: الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، القاهرة، مطبعة المعاهد، 1350هـ، ص 16].

ومثل هذا النص ينبغي أن يُقرأ بمزيد من العُمْق والفهم، إذ من الطبيعي ألا يَستغرق المتعلِّم في استيعاب كتاب المدَّة التي استغرقها مؤلِّفه، فقد يستغرق المؤلف بالفعل سنوات طويلة، لكن دراسة كتاب يمكن أن تتم خلال فترة أقل من هذه الفترة، ومن ثم يكون النص مقصود به دلالة معينة، ألا وهي البُعد عن العجلة في التحصيل، ولا يمكن أن يعني بأي حال من الأحوال أنَّ كتاباً استغرق تأليفه أربعين سنة لا يجوز تعلمه في أقل من ذلك!

وعن حُريَّة الاجتهاد في العلم يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما خالف فاتركوه) [الشوكاني: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، بيروت، دار القلم، 1983، ص 42].

وعن أهمية اختيار المعلم المناسب القادر على حسن التعليم، روي عنه قوله: (لا يؤخذ العلم من سفيه، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا يؤخذ من كذَّاب يَكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يُتَّهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يؤخذ من شيخ له فضل صلاح وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدِّث) [ابن قتيبة الدينوري: عيون الأخبار، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1930، ط2، ج5، ص 135].

ولأهمية هذه القضية، تتعدَّد الأقوال المنسوبة إلى مالك، فنجد أيضاً أنه سئل: (أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة؟ فقال: لا، قيل له: (أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنَّه لا يحفظ، ولا يفهم ما يحدث؟ قال: لا يكتب العلم إلا ممن يحفظ، ويكون قد طلب وجالس الشيوخ، وعرف وعمل، ويكون معه ورع)[ ابن الجوزي: صفوة الصفوة، طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكني، الهند، 1355هـ، ج 1، ص101].

وتأمل مسيرة مالك العلمية تؤكد لنا أن طالب المعرفة لا يمكن أن يحدَّ نفسه بفترة زمنيَّة بعينها، وإنما هو ساعٍ وراءها طالما ظلَّت أنفاسه تتردَّد وقلبه يخفق، وهو ما نسميه بمصطلح العصر الحاضر (التربية أو التعليم المستمر).

ومن هنا فإنَّ مالكاً رحمه الله تعالى، بعد أن تخرَّج على العلماء لم يتوقَّف علمه عند هذا، بل سعى إلى تنميته وتطويره عن طريق الاتصال المستمر بعلماء عصره، سواء أكانوا فقهاء أم كانوا غير فقهاء، وكان ذلك عن طرق ثلاث:

الأول: اتصاله بالعلماء في موسم الحجِّ ومُناظراته وأخذه منهم، ومُناقشاته معهم، وفي أوقات زيارة المدينة، فهو، على سبيل المثال، يَلتقي بأبي حنيفة ويَتناظران في مناظرة علميَّة بريئة، ويقول فيه: إنَّه لفقيه، ويقول الآخر فيه مثل ذلك، ويلتقي بالليث بن سعد، وبالأوزاعي، وبأبي يوسف، ومحمد، وغيرهم رضي الله عنهم، وهو في كل المقابلات يأخذ ويعطي.

الثاني: مجلسه العلمي الذي كان يلتقي فيه بالنابهين من العلماء المقيمين بالمدينة، سواء كانوا من أهلها أم من الوافدين عليها، واتخذوها مُقاماً طلباً للعلم والتثبت فيه، وكان هؤلاء يخصُّون مالكاً بالطلب، ومن ثم فنحن نرجِّح أنه كان يتحادث معهم فيما عندهم من الفقه، وقد لازمه محمد بن الحسن ثلاث سنوات، ومحمد راوية الفقه العراقي، ونحن نعلم شغف مالك بمعرفة آراء أبي حنيفة ومن في مستواه من حيث التقوى والفقه، ومن ثم فغالباً أن نجد مالكاً يخص محمداً بالتعرف على ما لديه مما ورثه من علم أبي حنيفة وأصحابه ومن سبقه من فقهاء العراق.

الثالث: الاتصال بالعلماء عن طريق المراسلة، ومما يشير إلى ذلك رسالته إلى الليث بن سعـد ورسالة ابن سعد إليه [محمد أبو زهرة، مالك، ص 120].

نظرات تربوية على الطريق

لا تتوقَّف قيمة المفكر والعالم على مقدار ونوع ما كتب وفكَّر فيه وإنما فيما يتركه من بصماتٍ على مسيرة الفكر والعلم، وتبلغ الذروة حقَّاً بأن يكون له امتداد بشري عبر العصور المختلفة، لا عن طريق التناسل البيولوجي المعروف من خلال أولاده وأحفاده وهلم جرا، وإنما عن طريق التناسل الفكري والعلمي إن صحَّ هذا التشبيه، من خلال فئة من الأتباع والتلاميذ والمريدين يحملون راية فكره إلى من بعدهم، وهؤلاء إلى من بعدهم.. وهكذا.

وتلك الميزة لا تتوافر إلا في هذا النفر الفذِّ حقَّاً من أئمة الفقه الإسلامي وفي مقدمتهم الإمام مالك.

لقد كتب كثيرون وفكَّروا من أقدم العصور حتى العصر الحديث، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثم روسو وكانت وهيجل، ثم هربرت ورسل وغيرهم، ولم يبق منهم إلا كتاباتهم، لكنهم (انقطعوا) من حيث الأتباع والمريدين إلا ما ندر.

ولكننا لو نظرنا إلى الحالة الخاصَّة بمالك سوف نجد تلاميذ ورواداً ومريدين دائمي النهل من مَعين فكره واجتهاده، في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي، وعبر مختلف العصور.

ونحن إذ نتوقف أمام بعض الأمثلة والنماذج، فسبيلنا الدائم، هو هذه الأبعاد والمضامين التربويَّة، فهي ساحتنا التي نرتادها.

وقد بدأ انتشار المذهب المالكي بالعراق بالبصرة على يد بعض أصحاب الإمام مالك من أئمة الطبقة الوسطى ممن رووا عنه الحديث وتفقهوا به، ومن هؤلاء الإمام عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري المتوفى سنة 198هـ، ومنهم عبد الله بن مسلمة بن قعنب المتوفى سنة 221هـ، ثم جاءت طبقة بعد هؤلاء من أتباعهم، مثل أحمد بن المعذل. 

وتوالي التلاميذ والمريدون، كل ينهل من فيض مالك وبجوده، وقد يضفي عليه شروحاً وتعليقات تبعث كثيراً من الضوء، ويجتذب العديد من التلاميذ، فيزداد الانتشار عن طريق حلقات تعليمية تعقد في منازلهم أو في المساجد، ومن خلال المراسلات والمقابلات والمناظرات والمنتديات العلميَّة المختلفة.

وانتشر المذهب في مصر وخاصة على يد عبد الله بن وهب، الذي لازم مالكاً ما يقرب من عشرين سنة، وإن كان لم يقتصر في تعلمه على الإمام مالك فقط، لكنه كان يكثر من الحديث، وفيما يبدو فإنَّ كثرة أخذه عن العلماء أوقعته في الرواية عن بعض الضعفاء، لكن من حسن الحظ أنه أدرك هذا في نفسه، وكان مالك هو منقذه، بالإضافة إلى الليث بن سعد، وفي ذلك روي عنه قوله: لولا أنَّ الله تعالى أنقذني بمالك والليث لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: (أكثرت من الحديث، فحيَّرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا ودع هذا)[ بدوي عبد الصمد: منهج كتابة الفقه المالكي، ص 130.]

وبهذا يتبيَّن لنا قيمة هذا النهج الذي أرساه مالك من حيث ضرورة التريُّث والتمهُّل في السماع والاستيعاب، والتدقيق في قبول ما نَسمع وما نَقرأ، والسعي إلى التثبت من كل هذا خوف الوقوع في الخطأ.

وهناك أسد بن الفرات بن سنان، والذي كان له دور كبير في إذاعة المذهب المالكي في أرجاء المغرب، والقيام بهذا فريضة دينيَّة وضرورة تربويَّة، فمن حيث هو فريضة دينيَّة، أنَّ الله تعالى ورسوله يأمراننا دائماً بأن نذيع ما حصلناه من المعرفة إلى من هو بحاجة إليها حتى يعمَّ نورُ الحقِّ بين الناس، وأما أنَّه ضرورة تربويَّة، فمن حيث السعي لنفع أكبر عدد من الناس بما حصلناه، فمن حقِّهم هذا، وخاصَّة هؤلاء الذين يَعيشون في أنحاء بعيدة عن يَنابع المعرفة والعلم.

وأبرز ما يَستوقفنا هنا أنَّ تلقي ابن الفرات لم يكن تلقيّاً سلبيّاً، وكأن مثله مثل جهاز الاستقبال، فقد كانت قراءته لما في كتب الإمام محمد بن الحسن في العراق، مثلاً، وما فيها من الفروض والمسائل وحلولها، حافزاً له لأن يبحث عن مثل هذه الحلول على وفق مذهب الإمام مالك ليجتمع بين يديه حكم المذهب في تلك المسائل[محمد أبو زهرة: مالك، ص 233].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

الحلقة السابقة هـــنا

[وللبحث تتمة في الجزء التالي]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 107، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة 1423 هـ

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين