نقض منهجيّة القراءة المعاصرة للنّصّ القرآنيّ عند المهندس محمد شحرور(4-7)

المسألة الثالثة: تلفيق شحرور في توظيف منهج اللسانيات

الخطأ المنهجي الذي وقع فيه شحرور:

1- أنه ألحق الدلالة اللغوية والشرعية بالدلالة العرفية من حيث التطور والتغير في المعنى.

2- والمسألة الثانية أنه لم يستنسخ المنهج اللساني بحرفيته، وإنما عمل على توظيفه بطريقة انتقائية تخدم أفكاره المسبقة، من خلال عمليتي البنيوية والتفكيكية.

وإن غاية البنيوية الحداثية في منهج اللسانيات عند العلمانيين العرب، هو فك الارتباط بين الوحي، وبين مراد صاحب الوحي - وهو الشارع جل جلاله - بواسطة مجموعة من الأوضاع والأساليب اللغوية والحذلقات الكلامية، وذلك من خلال تفكيك التراكيب اللغوية إلى مفردات، ثم تعبئة هذه المفردات بمعان جديدة من قواميس اللغة التي تحتملها، تؤدي عند إعادة تركيبها إلى إنتاج معان جديدة تختلف تماما عن المعاني التي سيقت لأجلها.

وهكذا يكون محمد شحرور، قد تجاوز قضية تحريف الرسم القرآني المستحيلة بما حفظ الله به هذا القرآن المنزل، إلى تحريف التفسير والدلالات اللغوية لتراكيب القرآن الكريم وصولًا إلى المعنى الذي قرر أن يصل إليه سلفًا، وبناء عليه لفق المنهج الذي يوصله إلى هذا الهدف، وهو الوصول بالإسلام إلى فهم متطابق مع تطبيقات الحداثة وفق النموذج الغربي بالتحديد، على قاعدة كثير من المبتدعة الذين يعتقدون ثم يستدلون.

وهنا يقع شحرور بمطب قاتل آخر؛ وهو تجاوز المنهج الاستنباطي الذي جاء به القرآن الكريم نفسه لفهم مراد الله تعالى، فهل يعقل أن الوحي الذي جاء بالتبيان لم يزود القارئ المكلف بمنهج معرفي يفكك من خلاله النص ويفهمه على النحو الذي يريد صاحب الوحي الذي أنزله؟

وهنا يأتي السؤال الأساس: هل فهم البيان الرباني هو على مراد الله تعالى؛ ونحن مكلفون ببلوغ هذا المراد؟ أم على ما يفهمه البشر المكلفون من النص أيًا كان هذا الفهم؟

هل التزم محمد شحرور بالمنهج اللساني المعلن أم وظفه كمنهج معلن لإخفاء المنهج غير المعلن؟

لا يفترض بالباحث أن يثق بالمنهجية البحثية المعلنة عند كثير من الكتاب، كالحديث عن المنهجية اللسانية، أو القراءة المعاصرة للنص، إذ إن البعض يحسب أن هذه فروعًا تخصصيّةً من العلوم اللغوية أو الشرعية، ويظن أنها بحق لها قواعدها وضوابطها التي تَعاقَب عليها جهابذة العلوم والنقاد.

ومع صدمة الحداثة فإن الحديث عن قراءة معاصرة، يوقع في نفوس كثير من الناس شيئًا من الرهبة، أو الهالة التي تلف كثيرًا من التخصصات الأكاديمية، مما يرفعها عن البحث والمراجعة فضلًا عن المساءلة والنقد، على أن الأمر لا يعدو كون المنهجية المعلنة إلا ستارًا، يعمي العين الناقدة عن النفاذ إلى ما وراء ذلك الإعلان من منظومات خفية غير معلنة.

وعند مراجعة ما سطره شحرور عن منهجيته المبتكرة؛ كثيرًا ما يجد القارئ أن الكاتب نفسه لا يتحاكم إليها، وإن تحاكم إليها فإنها لا تنتج شيئًا مفيدًا، فما هي إلا مجرد شعارات تحمل من العلوم والمعارف اصطلاحها - لا مضمونها - وإن جعجعتها هي المنتج الوحيد لسالكها، وإن الحاكم الأصلي لآراء الكاتب، هي منظومة خفية لم يفصح عنها في منهجه، ولا صرح أنها هي مقصده، مع أنها الأشد تأثيرًا وظهورًا في منتجه المعرفي.

وقد تحدث شحرور مرارًا عن منهجية يسلكها في كتبه، وأخصها المباحث اللغوية، لكن الواقع أن كتبه حوت منظومات معرفية خفية، هي الحاكم الأَوَّلي في ترجيح ما يصل إليه من آراء.. لذلك لا ينبغي الإسراع إلى تصديق شحرور في المنهجية التي يعلنها لنفسه مرارًا، فإن ذلك يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ بما سيقوله.

والواقع أن الرجل لا يحتكم إلى أي إطار منهجي معلن، وإنما هو مجرد تلفيق لمنظومات معرفية متنوعة، يؤدي الأخذ بها بعين الاعتبار إلى الخروج بتفسيرات للنص تتماشى مع المفاهيم الغربية أو اللادينية عن الحياة، والتي كان شحرور قد جعلها مسبقا هدفه الذي يمشي نحوه، ولوى النصوص بوسائل شتى للوصول إليه، وبالكشف عن هذه المنظومات الملفقة يمكن للقارئ أن يرصد تحاكم شحرور إليها من كتاب إلى آخر من كتبه.

وعادة ما يجري الحديث عن منظومة واحدة خفية تكون وراء عدم التناقض، لكننا أمام مجموعة من منظومات متناثرة، تابعة لغيره؛ وليست من ابتكاره، حاول شحرور تمريرها، لتحكم معاني النصوص التي ينقضّ عليها بالتأويل، وقد كفى غيره عناء؛ إثبات أنها أجنبية عن النصوص نفسها باعترافه أنه تخلى عن التراث كاملًا، وبدأ من الصفر وإن طريقته جديدة معاصرة.

وتتكاثر المصطلحات في سطوره من صيرورة إلى سيرورة (1) إلى منع الترادف ومنع الحشو والسياق.. ونحو هذا، وهي عند التحقيق مجرد ألفاظ لها وقع رنينها في نفس السامع فقط، من دون أن يكون لها أثر موصل لمطلوب!

وهي غلاف لتسويغ المنظومات التي يحتكم إليها بطريقة غير واضحة، تلك المنظومات هي جوهر أطروحته، وما يعلنه من لسانيات ونحو هذا مجرد عَرَض، لذلك فإن الانشغال معه بالبحث في الباب المعلن، هو انشغال بالعرض عن الجوهر وبالهامش عن الأصل الذي يحكم سطوره (2).

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الثالثة هنا 

======-

(1) انظر: القصص القرآني لشحرور ص 44

(2) بتصرف يسير من كتاب "بؤس التلفيق" نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، يوسف سمرين، طبعة مركز دلائل السعودية ص 80 -81

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين