نقض منهجيّة القراءة المعاصرة للنّصّ القرآنيّ عند المهندس محمد شحرور(3-7)

المسألة الثانية: منهج مستورد لقراءة النص

نتساءل: ما المنهج البديل عند المهندس محمد شحرور الذي يريد من خلاله إعادة إنتاج الشريعة الإسلامية من جديد؟

إنه علم اللسانيات وتاريخانية، النص الذي نشأ في الغرب لأجل حل معضلة التناقض الحاصل بين معطيات العلم المادي الحديث، وبين فهم الكنيسة للنص المقدس.

إن حالة عدم التسامح بين المذاهب المسيحية في القرون الوسطى أدت إلى إشعال الحروب الدينية لمئات السنين في أوروبا، هذه المأساة حملت كثيرين من فلاسفة الغرب على إعادة قراءة النص المقدس بما يتوافق مع العلم؛ ويوجِد القطيعة مع القراءات الكنسية، ورفض احتكار الكنيسة لفهم النص المقدس التي كانت تتهم كل من يخالفها الرأي بالهرطقة والتجديف.

وعندما أراد شحرور أن يقرأ النص قراءة معاصرة، تتمشى مع روح العصر بزعمه، كان لا بد له من الاستعانة بمنهج معرفي مستورد يخرج به عن صرامة قواعد أصول الفقه والتفسير، التي ستدحض كل جديد يأتي به، فاستعاض عنه المنهج اللساني الغربي الذي أوجده الغرب لتفكيك النص المقدس عندما وصل إلى المأزق المعرفي بين العلم والنص الديني، فالإنسان بحاجة للإيمان، ولكن النص المقدس متناقض مع العلم! فما الحل؟ الحل هو التأويل، وهو نقل المعنى المرفوض إلى معنى مقبول.

إن المنهج اللساني الغربي في قراءة النص المقدس يقوم على أساسين اثنين:

الأول: تطور دلالة المصطلحات بتطور الزمان والمكان والحضارة، وبناء على ذلك يمكن أن نجد في كل عصر تفسيرًا جديدًا للنص، يتوافق مع روح هذا العصر، ولا يكون معارضًا لما فهمه الصحابة والسلف، فما فهمه السلف هو صحيح باعتبار عصرهم، وما نفهمه نحن اليوم هو صحيح باعتبار عصرنا.

الثاني: إن القول بتطور النص يعني أن لا معنى نهائي للألفاظ، لأن اللغة مثلها مثل المادة هي في حالة تطور مستمر، وهنا يقوم محمد شحرور بتطبيق وإسقاط النظرية الدارونية الماركسية في أصل الأنواع على اللغة فيما يسميه الباحثون الأنثروبولوجيا (1).

إن نقـل هـذا المنهـج اللساني المستورد وتحويـله من حل أزمة النص المقدس في المسيحية إلـى الدراسـات القرآنيـة، أدت بشـحرور إلـى السـقوط فـي الخطـأ المنهجـي الـذي أشـار إليـه أحـد الباحثيـن بــقوله: (بلا نـص ولا دلالـة ثابتة لا تفسـير نهائـي للنص، لا تفسـير مفصـل أو موثـوق بـه إنه اللعـب الحـر للغـة، فـكل القـراءات إسـاءة قـراءات، إلـى آخـر تلـك المتاهـات التـي أدخلتنـا فيهـا الحداثـة الغربيــة ومدارســها النقديـة) (2).

ونتيجة ما جاء به المهندس شحرور: أنه إذا لم يكن للنصوص معان نهائية، فما الحاجة للإيمان بها أصلا؟ وعند ذلك يكون الكفر بها هو الحل الأمثل للتعامل مع كلام إله لا يَعرف عباده ما يريده منهم، ويحمل خطابه لهم في كل عصر وزمان معنى مختلفًا عن الذي قبله، وهكذا لا يثبت النص على معنى، ويصبح التكليف الذي هو جوهر الدين والعبودية ضربًا من العبث.

وهنا لا بد أن نشير إلى أن العلماء يميزون بين ثلاث دلالات للمفردة القرآنية:

1- الدلالة الشرعية للمصطلح.

2- والدلالة اللغوية.

3- والدلالة العرفية.

*فالدلالة الشرعية: ما تدل على مقصود صاحب الوحي من اللفظ.

*والدلالة اللغوية: ما تواضع عليه أهل اللغة حين ضبطوا المصطلحات لفهم مراد كلام العرب في الزمن الذي نزل به النص.

* والدلالة العرفية: وهي التي تخضع للتغير تبعًا لتغير العادات والتقاليد في استخدام الألفاظ، لتدل على معنى يريده الناس في زمن ما، وهي المتطورة والمتغيرة بتغير الزمان والمكان، فالناس عرفا لا يسمون السمك لحمًا، وإن كان القرآن الكريم سماه "لحمًا طريا"، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة النحل: الآية 14]، وَمَنْ حَلَفَ أنه لَا يَأْكُلُ لَحْمًاْ فأَكَلَ لَحْمَ سمَكِ لَم يَحْنَثُ (3). 

هذا في حال عدم انصراف اسم اللحم إلى السمك عرفًا، فإن حُكم الحالف يتبع لقصده، فإن كان خاليا من القصد تُقدم الدلالة العرفية على الدلالة الشرعية، ولو حصل أن تغيرت الدلالة العرفية وصار يسمى السمك لحمًا؛ فإن الحكم يتغير.

وهناك حالة؛ ما إذا صرف الاسم إلى غير المسمى الذي أنيط به الحكم كصرف معنى التصوير الذي جاء النهي عنه بأحاديث صحيحة (4) والذي يتناول الرسم والنحت، إلى معنى التصوير في هذا العصر الذي يدخل فيه التصوير الفوتوغرافي، فإن العلماء الذين جوزوا التصوير الفوتوغرافي قالوا: إن النص المحرم لا يتناوله، لأننا يجب أن نفهم النص في سياقه التاريخي الذي يدل على مقصود التصوير، وهو النحت والرسم في ذلك الوقت، ولا يتناول المعنى العرفي الذي يتناوله تقييد الخيال أو الصورة عبر آلة التصوير.

النتيجة:

إن الخلل المنهجي الذي يلاحظ في العمل الذي قام به شحرور في الوصول إلى فروق بين المصطلحات التي اشتغل عليها، سببه اعتماده اللغة وحدها في استنباط معاني كل الألفاظ التي تعرَّض لها، ولم يفرق بين اللفظ المفهوم الذي أعطاه الشرع معنى محددًا، وبين اللفظ العادي الذي يمكن أن يستقرأ معناه من معاجم اللغة فقط، الأمر الذي أوصله إلى تأويلات أبعد ما تكون عن منطق اللغة العربية والشرع الحكيم، فالألفاظ التي أعطاها القرآن معنى خاصًا بها، يجب الوقوف فيها عند ذلك المعنى والسياق، ولا ينبغي الانسياق في تقمص معانيها المعجمية اللغوية، وتنزيلها مهما بلغت من التكلف والزيغ (5). 

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الثانية هنا 

======-

(1) علم الأنثروبولوجي يهدف إلى الكشف عن الأصول التاريخية لنشأة اللغة عمومًا، والمجموعات المتشابهة فيها على وجه الخصوص، ويقارن اللغات بعضها ببعض ليحدد الظواهر اللغوية الشائعة بينها على وجه العموم، وعلى ضوء ذلك يتمكن من فهم العمليات والتطورات التي أدت إلى نشأة اللغة وتطورها واختلافها.. راجع موسوعة ويكيبيديا. 

(2) من كتاب المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك رقم 32، من سلسلة عالم المعرفة، عبد العزيز حمودة، الصفحة 34

(3) راجع فتح القدير لابن الهمام (المتوفى: 861هـ)، الناشر: دار الفكر (ص 121-ج 5) باب الأيمان في الأكل والشرب. 

(4) عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ)). صحيح مسلم رقم الحديث 5588

(5) قراءة في ضوابط التأويل وأبعادها المنهجية في الدراسات القرآنية المعاصرة) الدكتورة رقية طه جابر العلواني، بيروت 11 -12 شباط 2006 م، بحث ألقي في ندوة دراسة التطورات الحديثة في الدراسات القرآنية ص 15

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين