الخروجُ من التِّيه (4-6)

التأثر والتأثير بين القادة والقاعدة

المطلب الثالث: التأثر والتأثير بين القادة والقاعدة

أما التأثر والتأثير الإيجابي المتبادل بين القادة والقاعدة في الموقف نفسه، فيشهد له ثبات القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم وقلَّةٌ من أصحابه يوم أحد، وهو يوم مشهود، وليس عن مشهد حنينٍ ببعيد؛ فالمقتلة كانت عظيمة عقب التفاف خالد بن الوليد وكتيبته من خلف جبل الرماة، وأشيع أن القائد الأعظم قد قُتل - وللأراجيف أفاعيلها في صفوف القاعدة - فانهارت قوَى القاعدة، واستسلم فريق منها لمصيره، وتكالب المشركون عليه صلى الله عليه وسلم يريدون قتله، وهو صامد لم يغادر أرض المعركة، بل إنَّ المشركين هم الذين غادروها أوَّلًا، وأكثر من ذلك كان: لقد همَّ بالسير إليهم ومناجزتهم لو أنهم غادروا أحدًا قاصدين المدينة؛ فثبت بعض القاعدة بثبات القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، وتحلقوا حوله، وجعل بعضهم من جسده درعًا يصد عن النبي صلى الله عليه وسلم النبال والسهام، منهم سعد وأبو دجانة ومصعب وأنس بن النضر وحمزة رضي الله عنهم، وفاءت إليه فئة ممن فرُّوا، كلُّ ذلك بفضل ثباته صلى الله عليه وسلم وثبات فئةٍ معه: (عن الزبير قال: مالت الرماة عن العسكر حين كشفنا القوم عنه، يريدون النهب، وخلَّوا ظهورنا للخيل، فأُتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدًا قد قتل، فانكفأنا وانكفؤوا علينا، فانكشف المسلمون حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم: ((من يشتري لنا نفسه؟)) فقام زياد بن السكن في خمسة نفر من الأنصار، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا فرجل، فيقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد بن السكن أو عمارة بن زياد، فقاتل حتى أثبتته الجراح، ثم فاءت فئة من المسلمين، فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَدْنُوه مني، فوسده رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدَمَه، فمات وخدُّه فوق قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب معه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية على الجبل، فقال رسول الله: إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: اخرج في إثر القوم، فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الابل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنَّهم، قال عليٌّ رحمةُ الله عليه: فخرجت في إثرهم أنظر ماذا يصنعون، فلما جنبوا الخيل وامتطوا الابل ووجهوا إلى مكة، أقبلت أصيح، ما أستطيع أن أكتم ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا بي من الفرح إذ رأيتهم انصرفوا عن المدينة) (1).

لم يُذكر ثبات القائد هنا إلا ذُكِر معه ثبات تلك الثلة الباسلة؛ فنجم عن ثباتهم أنْ فاءت فئة من الذين فروا من ساح أحد، وكان ما كان من بطولات أسطورية من أشهرها ملحمة أنس بن النضر (2)، لقد اتخذوا من أجسادهم دروعا تَقِي القائد الأعظم الصامد الثابت في قلب الميدان بعد أن تواثب المشركون على موقعه، وشاعت الأراجيف بأنه قد قتل، وألقى قوم سلاحهم.

وفي هذا السياق لعل أقرب مشهدين في التاريخ الحديث هما ما برهن عليهما الدوران العكسي لحركة السيرورة المصرية؛ فبينما الرئيس المصري المنتخب عام 2012م يظنُّ أنَّه يمضي بِحُصُنِ المحرِّك وعجلاته قُدُمًا إلى الأمام بدرجة قوة الطرد المركزي، كانت القاعدة وجُلُّ دول العالَم معها يعطِّلون حركته سوقًا بل زجًّا ودفعًا إلى الخلف بقوة الدفع المركزي؛ وجاء الانقلابيون على إِثْرِه، فانقلبت الأمور رأسًا على عقب، فمنذ سلْخِ 2013م ولصوص العصابة الانقلابية يجرُّون حُصُن المحرِّك، ويدفعون عجلاته إلى الوراء، والحاصل أنَّ مصر في المشهدين ارتدَّت على أعقابها، فمصرُ لم تَعُدْ مصرًا.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الثالثة هنا 

( ) ابن كثير: السيرة النبوية (3/ 621-627).

(2) ابن إسحاق: السير والمغازي، (ص: 327).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين