رحلة الحج (6)

يوم الأربعاء 26 من ذي القعدة سنة 1439هـ

فاتحة نظام القرآن:

درَّستهم اليوم من كتاب (فاتحة نظام القرآن) للفراهي، ومن خلاصة الدرس:

قال: احتمال آيات القرآن المعاني الكثيرة ينشأ من قصور العلم والتدبر، والعلماء الذين نقلوا أقوالا مختلفة في تفاسيرهم أرادوا أن يخلوا بيننا وبين كل ما قيل في توجيه الآيات، فنختار منها ما يرجح عندنا، ولكن ليس لنا أن نحفظ الأقوال من غير ترجيح عندنا فنبقى حيارى جاهلين.

وقال: ومع كل هذه الأمور نحول الإشكال والإبهام إلى قلة علمنا، وقصور فهمنا، وتقليدنا لما قد أخذنا من الآراء التي أخطأنا فيها.

وقال: كما أن للحواس أدواء فكذلك للعقل، والشيء يوصف لحاظًا إلى صحة الحال، كما أن الشمس بازغة وواحدة، والسكر أبيض وحلو، مع أنهما ليسا كذلك لللأعمى والأحول والمحموم، وقد أعلن القرآن فقال: "هدى للمتقين"، و"إذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا"، وهكذا في غير موضع، أما سمعت قول سقراط: إن الحقائق معلومة للنفس ولكنها غشيها النسيان، وقول الرومي: أول نفسك ولا تؤول القرآن، وقول الحافظ: أنت نفسك الحجاب فارفعه، فماذا أراداوا بهذه الكلمات؟

وقال في المناسبة والترتيب: اعلم أن القرآن يأتي بجملة من المعاني على نظام مختلف، فيأتي بأمر واحد على أطوار مختلفة حتى إن العبارة عن أمور متحدة تتبدل والمعنى واحد، كما أن أمير الجيش يرتب جيشه على تآليف شتى، ولا يتبين حسن نظامه إلا لمن مهر في فنه، وأما لمن هو دونه فبما يعقبه من النصر والغلبة. والغرض منها عند بعض العلماء إظهر الإعجاز، وعندي، والله أعلم، أن الإعجاز ليس من أغراض القرآن، بل هو من لوازمه، ألا ترى في كل ما خلق الله من حبة خردل من ذرة إلى السماوات العلى كلها معجزة، ولكن ليس شيء من خلقتها لغرض الإعجاز، بل لحكمة الله تعالى في خلقه، نعم إن عجز غيره عنها دليل على كونها من الله تعالى.

وقال: أما أنحاء الترتيب فالأمر الواحد ربما يؤتى به كالعمود، وربما يذكر كالتبع، وحينا يورد مجملا وحينا مفصلا، ومرة يقدم وأخرى يؤخر، وتارة يفرد وتارة يقترن، فتلك أربع تقسيمات، تحت كل واحدة منها قسمان، فالجملة ثمانية أبواب.

وقال: وقبل أن نبحث عنها مفصلا نشير إلى أن أول أمر يطلب هو العمود، ومنه يتبين لك قسمه، ثم ما هو المجمل، فإن المعنى الذي يحتوي المعاني المفصلة يذكر مجملا، ثم إذا تأملت في ترتيب أجزاء الكلام علمت وجه وضعها مقدما أو مؤخرا، ثم إذا قايست جملة من المعاني المتحدة في سور شتى فرأيت أن أمرا واحدا ذكر في مقام مفردا، وفي الآخر مقرونا بقرين له، ثم ربما رأيت أن أمرا واحدا يقرن بأمور تارة بهذا وتارة بذاك، فإذا نظرت في الترتيب من هذه المناظر رأيت لأمر واحد وجوها حسب وضعه، وهديت إلى تأويله الصحيح.

الشيخ صفوان الداودي:

ورافقت الأخ أحمد عاشور إلى منزل فضيلة الشيخ صفوان الداودي في الساعة السابعة والنصف صباحا، وهو صفوان بن عدنان بن هاشم بن محمد علي الداودي، ولد سنة ثمانين وثلاثمائة وألف في حي القنوات بدمشق، وابتدأ طلب العلم صغيرًا في حلقات جامع زيد بن ثابت الأنصاري، حفظ فيها كتاب الله وجوَّده، مع حفظ الجزرية ودراسة شرحها، وتحصيل الفقه والتفسير والحديث واللغة، واستظهار كثيرٍ من منظومات العلوم، وهاجر إلى المدينة المنورة سنة إحدى وأربعمائة وألف، وما تزال إقامتُه فيها إلى اليوم. ودرس علوم الشريعة الإسلامية في جامعة مراد آباد في الهند، وحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه من الجامعة الأمريكية المفتوحة بواشنطن، وتخرج بعدد كبير من الشيوخ في الشام والمدينة والهند، وقرأ كتب الحديث والسنَّة على عدد من العلماء المحدِّثين، وله: اللباب في أصول الفقه، وقواعدأصول الفقه وتطبيقاتها، وأصول الفقه قبل عصر التدوين، وهو منقطع للتدريس والإقراء في الحرم المدني الشريف.

كنت قد قابلته قبل أكثر من ثلاث سنوات في منزل شيخنا الصالح رحمة الله المظاهري وهو يقرأ عليه بعض كتب الحديث، وهو ذو هيئة حسنة ولباقة، باديًا عليه سيما الصالحين، متميزًا بسمته العالي وتواضعه وحسن خلقه، وعدم التظاهر بعلمه ومقامه، وكان المجلس مجلسًا مباركًا، تعلمت فيه الكثير من محادثات الشيخين: صفوان الداودي وأحمد عاشور العلمية، وأعجبني حرصهما على توحيد كلمة المسلمين، وكراهيتهما للتفرق الشنيع، ونفرتهما من صنيع بعض طلبة الحديث من الاقتصار على الاستكثار من الإجازات دون فهم وفقه، الأمر الذي جرَّ إلى المجالس الحديثية عيبًا كبيرًا ووفَّر لخصومها فرصة الطعن فيها والنيل منها.

وأهدى إلي الشيخ الداودي اثنين من مؤلفاته:

قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها:

وهو من مطبوعات دار العاصمة بالرياض سنة 1435هـ، وهو أطروحته قدمها لنيل درجة الدكتوراة في أصول الفقه من الجامعة الأمريكية المفتوحة، بواشنطن، بإشراف الدكتور مصطفى الخن شيخ الأصول في بلاد الشام، قال المؤلف في مقدمته: وأهم ما في علم أصول الفقه هو قواعده، لذلك استعنت بالله على تجريد تلك القواعد واستخراجها من بحار الكتب وأعماقها، لأنها المقصود والمطلوب من هذا الفن، فمتى عرفت القاعدة سهل البحث عن الفرع الذي ينطبق عليها، ولما كانت القاعدة خفية فالتخريج عليها والبناء عليها أشد خفاء وغموضا.

وقال وهو يرجع سبب اختيار هذا الموضوع إلى سببين رئيسين:

الأول: أن هذا الموضوع - حسب علمي - موضوع بكر، لم يفرد بكتب مستقلة، وأبحاث وافية بالمقصود، بل ما زالت أكثر تلك القواعد الأصولية منثورة في الكتب، مخبَّأة في مخدَّراتها، محجوبة بالمناقشات الأصولية، والاعتراضات الفقهية، مما ألبسها ثوب الخفاء، وأبعدها عن أعين النظار، ففي استخراجها وإبرازها تيسير وتجديد

والثاني: أن هذه القواعد هي المقصودة من علم أصول الفقه، فهي لبابه ونقاوته، وعليها أكثر المعول في الاجتهاد، لذلك كانت الحاجة ماسة لاستخراج لباب هذا الفن، وهي هذه القواعد، وصوغها بعبارات أنيقة، وتقديمها للراغبين فيها، والباحثين عنها، مما ييسِّر تناولها، ويقرِّب شواردها.

وقال: حوى هذا البحث من القواعد الأصولية ما لم يجتمع في كتاب من كتب الأصول، وحوى من الأمثلة الأصولية القرآنية أكثر من 600 آية، ومن الأحاديث النبوية أزيد من 300 حديث، ومن الفروع الفقهية حوالي 500 فرع، والأمثلة التي ذكرتها تطبيقا على القواعد الأصولية قد استغرقت وقتا طويلا، وجهدًا كبيرًا، لأنها مستخلصة من كتب الأصول، وتفاسير القرآن، وشروح الحديث، وهي أهم ما في البحث، مع العلم بندرة أمثلة الأصوليين في كتبهم.

عقيدة أهل السنة والجماعة:

طبع الكتاب من دار المقتبس سنة 1434هـ، قال في مقدمته: فهذا مؤلف مختصر في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة مما اتفق عليه المسلمون، وقد كتبتها لسببين:

الأول: إفادة نفسي خاصة، وطلبة العلم عامة، لينتفعوا بها، ويُعلِّموها الناس.

الثاني: تجميع المسلمين على الأمور المتفق عليها، والابتعاد عن كل ما يثير الفرقة والاختلاف، وهو المطلوب منا شرعا.

الشيخ يحيى الغوثاني:

وشرَّفنا ونحن في منزل الشيخ الداودي فضيلة الشيخ يحيى الغوثاني، وهو الشيخ الدكتور يحيى بن عبد الرزاق الغوثاني، ولد سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف في الشام، وأخذ البكالوريوس كلية الشريعة من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والماجستير في الدعوة والدراسات الإسلامية من المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة بمكة المكرمة، وحصل على الدكتوراه من قسم التفسير وعلوم القرآن من جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية بأم درمان وتخصصه الدقيق: علم القراءات. حفظ القرآن الكريم، وجمع القراءات العشر، ومن مؤلفاته: 1- كيف تحفظ القرآن الكريم قواعد أساسية وطرق عملية، 2- فن الإشراف على الحلقات والمؤسسات القرآنية داراسنة تأصيلية ميدانية، 3- وعلم التجويد أحكام نظرية وملاحظات عملية تطبيقية للمدرسين. وغير ذلك، وحصلت له الإجازة من قرابة ستمائة شيخ كالشيخ عبد الله بن الصديق وعبد العزيز الغماريين، ومحدث الهند حبيب الرحمن الأعظمي، وشيخ الحديث المعمر محمد حياة السنبهلي، ومحمد مالك الكاندهلوي، ومعراج الحق صدر المدرسين، ومنظور أحمد لال دين، وأبي بكر العطاس الحبشي، وعبد القيوم الرحماني، وأحمد السورتي، وغيرهم.

وقد لقيته في رحلتي الشامية صحبة الشيخ ماجد الدرويش وعمر النشوقاتي، وسمعت منه المسلسل بالأولية، وأجازني.

وحدثنا اليوم عن رحلته الأخيرة إلى طاشقند وسمرقند وبخارى وتراثها العلمي والثقافي والحضاري، والانفتاح الديني والاجتماعي الذي بدأ أهلها يتمتعون به أخيرا..

واستفسروني عن مشروعي لشرح صحيح مسلم، وأعمالي باللغة الإنكليزية، وتدريسي في بلاد الغرب، ورأيتهم من خيرة الجلساء، كثيري الافتنان، قليلي التكلف، مهذَّبي الأقوال والأفعال، نطقهم أصفى وأعذب من زلال الماء، حافظي الإخاء، وراعي الوفاء، خلق الله أخلاقهم فحسَّنها تحسينا.

السباعيات:

وأهدى الشيخ الغوثاني كتابه (السباعيات) إلي، من مطبوعات دار الغوثاني للدراسات القرآنية سنة 1438هـ، قال وهو يعرف بالكتاب: "فلقد أخذت على نفسي منذ سنين أن أقدم للأمة ما يفيدها في إطار بناء العقول ومنهجية التعليم والتفكير، وقد شغلتني منذ مدة قضية بناء العقل الإنساني، فقرأت واطَّلعت على الكثير من الأبحاث والدراسات العلمية وقدمت الكثير عبر دوراتي التدريبية بصياغة عربية إسلامية في أنحاء العالم.

وكنت أثناء هذه الرحلة العلمية البحثية وتجوالي في بلدان العالم لتقديم دوراتي وندواتي، ومراجعتي للموسوعات العلمية والمعرفية أقيد ما أراه مفيدا وأسجله وأصنفه في أرشيفي، ثم صنعت هذه المعارف عبر سلسلة متنوعة رائعة مختصرة مفيدة على شكل سباعيات وسداسيات وخماسيات ... تتناول كل جوانب الحياة. وهي عبارة عن محاور مركزة تصلح أن تكون كمحاضرة تنويرية أو دورة تدريبية، تقرب البعيد وتختزل الكثير في زمن أصبح كل شيء فيه يعرف على وتر السرعة."

فطور في مطعم شامي:

وكان للشيخ الغوثاني ارتباط مسبق ببعض الجهات فغادرنا قبل الفطور، وأخذنا (إياي والأخ أحمد عاشور) الشيخ الداودي إلى مطعم شامي للفطور، وذكرتُ لهما تجربتي لمطعم هندى قريبا من مدخل سوق الحميدية في دمشق، ولم نر في هذه المنطقة مطعما هنديّا غيره، وهى منطقة راقية، ولكن المطعم الهندي كان مستواها متدنيًا جدّا، وهو غير نظيف، تعشينا فيه عازمين على أن لا نعود إليه أبدًا.

أُحضرت إلينا أفخر أنواع الفطور الشامي فتناولناها في رغبة مستطيبين إياه، وأفادنا الشيخان بفوائد علمية وحديثية، ولقد أعجبني من كلا الشيخين حسن الاستماع لغيره، وعِظم الاهتمام بحديثه، وذلك من الآداب الرفيعة التي لم أر إلا القلة من الناس ملتزمين به، كلما نظرت في أخلاقهم، ازددت رغبة في إخائهم، فهم مقصدي في صباحي، وهم بغيتي في مسائي، فيا ليت الناشئة عرفوا ضرورة أخذ الأدب من العلماء قبل اقتباس العلم منهم.

كلمتي لأصحابي:

وألقيت كلمة لأصحابي بعد العصر، ذكرتهم فيها بأهمية ملة إبراهيم عليه السلام، وأن من أعظم أركانها الصبر، إن الناس يتمنون حياة فارغة من المشاكل، وأمانيهم وأحلامهم تضليل، إن الله لم يعد بمثل هذه الحياة، بل على العكس من ذلك قال: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات"، فالمحن والبلايا تلازم الإنسان، وعلَّمنا الله تعالى كيف نواجهها، فقال: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين"، وقال: "وبشر الصابرين"، وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أفضل أمثلة للصبر، واعلموا أن الدهر مختلف، وما أيامكم فيه بسواء، فيوم بؤس وشدة حينا، وآخرُ يومُ سرور ورخاء، وما أزين الصبر لأصحابه، وغاية الصبر معية رب العالمين.

الشيخ محمد سعد الكاندهلوي:

وخرجت لصلاة المغرب مع الإخوة الكرام الشيخ مجاهد علي، والشيخ ناصر ضمير، والشيخ كبير الدين، وصلينا في داخل المسجد، وانتظرنا قليلا، فلما انصرف الناس عن الصلاة وقلَّ الازدحام تقدمنا إلى البناء العثماني، وقابلنا فضيلة الشيخ محمد سعد بن محمد هارون بن محمد يوسف بن محمد إلياس الكاندهلوي أمير الدعوة والتبليغ، فرحَّب بنا محتفيًا بنا ومنبسطا إلينا، وذكرت له صلتي بالشيخ عيسى المنصوري ففرح بها جدا، وقال: إنه دائم الدعاء له شكرًا لما أولاه من جهد في محبته، وأبدينا عن تقديرنا لما يقوم به من سعي في سبيل الدعوة وتثبيتها على السنة الصحيحة، وهو من بيت ملئت قلوب العالمين بأفعالهم الحميدة، ورث العلم والصلاح أبًا عن جد، صاعدي جبال العلا والمجد، سل عنهم العالمين إن جهلت، وهل يجهل ذو الناظرين هذا الضياء.

فلما سلمنا عليه سلام الوداع أعطى كل واحد منا طيبا، فقال الشيخ مجاهد: حسبنا دعاؤكم لنا، قال: الطيب لا يرد، ثم سألني أن أبلغ تحياته إلى الشيخ عيسى المنصوري، ووجه إليَّ الدعوة لزيارة مركز نظام الدين بدهلي، فجزاه الله خيرا وجمع عليه المنتسبين إلى الدعوة.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين