رحلة الحج (5)

يوم الثلاثاء 25 من ذي القعدة سنة 1439هـ

درس سورة الفيل:

ومما درستهم اليوم من سورة الفيل للعلامة الفراهي فخلاصته:

بيان ما فضل الله به هذا البيت وأهله على سائر المعابد وذويها: كل ما علمنا الله تعالى من قصص الأوَّلين أودع فيها آيات على عدله ورحمته، فإذا نظرنا فيها ظهر لنا بعض الوجوه التي تهدي إلى الفرق بين مكة وأورشليم وذويهما، والآن نذكر طرفا منها آخذين من التوراة ليكون حجة على أهل الكتاب:

الأول من جهة كون الكعبة أصلا وأساسًا للدين: وذلك بأن هذا البيت أول بيت وضع للناس مركزًا للتوحيد والإطعام، وهذا مما بدلته اليهود مع أن حقيقة الأمر تلمع من التوراة، قال تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدىً للعالمين، فيه آيات بيِّنات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، فذكر ثلاثة دلائل على كونها أول بيت، وبناء إبراهيم، فأول بيت الله أحق بالحفظ، فكان كالأساس والأم للدين الحق، وأما بيت أورشليم فكان بناء سليمان عليه السلام كما صرَّحت به التوراة، ولم يكن لهم بيت العبادة قبله.

الثاني: من جهة كرامة من بناه: فإن الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما، والبيت المقدس بنته العَمَلة المكرَهة المعذَّبة، كما صرح به في التوراة، وفي القرآن أيضًا إشارة إليه، ودعا إبراهيم عليه السلام لمكة بالأمن والبركة، ولكنه عليه السلام خص بدعائه المؤمنين، فعمه الله للكافرين أيضًا في الدنيا، فلرعاية حرمة البيت العظيم لم يرض الله أن يعذب ذريته فيه بعد كفرهم، وأما وعد الله في أورشليم فكان مقيدا ما أقاموا فرائضه.

والثالث: من جهة كونه من الرب تعالى: فإن إبراهيم عليه السلام بناه بأمر الرب، وأمره بالهجرة إلى موضعه، وأراه مكانه، ووعد أن يعذب من جاء إليه ملحدا وظالما، وأوفى هذا الوعد بأصحاب الفيل، وأما مسجد أورشليم فجل أمره أن أراد داود عليه السلام أن يبني بيتا لعبادة الله، فمنع عنه وحول إلى ابنه سليمان عليه السلام، فبناه كيف شاء وأين شاء.

والرابع: من جهة كونه مؤسَّسًا على كمال الإسلام: وذلك بأنَّ إبراهيم عليه السلام قرَّب هناك ابنه إسماعيل، وهما أسَّسا هذا البيت ودعَوا الربَّ أن يتقبَّله.

والخامس: من جهة صبر من سكن عنده من ذرية إبراهيم عليه السلام: وذلك على طريقين: طريق القرآن، وطريق ما يوجد في صحف اليهود.

السلام على النبي صلى الله عليه وسلم:

ثم دخلت مع الشيخ مجاهد علي وغيره المسجد من قبل باب السلام لتقديم تحياتنا وصلواتنا إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وصاحبيه المباركين رضي الله عنهما، إن زحمة أعمالنا وأشغالنا تكدر قلوبنا بأنواع الملاهي، وتُقسيها بصنوف الشواغل، وما أنجع الوقوف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم في إزالة الحجب الكثيفة من الغفلة، إن الوقوف هنا ليس كالوقوف بين الملوك والأمراء، إنه وقوف أمام من له جانبان: جانب صلته بالله تعالى، اختاره لهدايته ورحمته، وجانب صلته بخلق الله تعالى، فنقل هذه الهداية وهذه الرحمة إليهم، وهو وقوف أمام من قال تعالى عنه في كتابه: "عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"، إنه وقوف يسوده إجلال للنبي صلى الله عليه وسلم وإكرام، ويغلبه حب له وولاء، وتذكير بحقه من الشكر له والاعتراف بفضله، وتجديد عهد من الإيمان والإسلام.

زيارة البقيع:

وزرنا البقيع مسلّمين على الصحابة ومن بعدهم من الصَّالحين رضي الله عنهم أجمعين، يروى أن عشرة آلاف صحابي دفنوا فيه، منهم ذو النورين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، وأكثر أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطيبات وبناته الطاهرات، وهل ضمت أرض بين جوانحها ما ضمه البقيع من أشراف كرام وأتقياء أبرار، طولهم باد على الكبراء والأشراف، وليهنِهم الكمال في المكارم والمعالي، وما سار العلماء العاملون سيرا إلا وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم منائر هدى، وقد قصَّر عنهم مدح المادحين وثناء المثنين إذ وصفوا في القرآن وصفا، وهل فوق شهادة الله من شهادة، ومَن أصدق من الله قيلا، وأشرب المسلمون حبهم، وهو فرض عليهم مجمعين عليه رغم ما تفرقت بهم المذاهب والآراء، فما أشقى من أبغضهم وما أتعس من كرههم، وما زادهم بغض المبغضين وكره الكارهين إلا رفعة وعلوا وقربى إلى رب العامين وزلفى. 

بيرحاء:

روينا في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه ببرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية "لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ"، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ، ذلك مال رايح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، وفي رواية له: فجعلها لأبيّ وحسان، وكانا أقرب إليه منّي.

وموضع بيرحاء الآن في داخل المسجد النبوي عند الباب المجيدي، قد أعلموا عليها، فزرناها، ولقد يثير في قلوبنا كامنَ حبها كلُّ ما متَّ إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بصلة ما.

سقيفة بني ساعدة

تقع سقيفة بني ساعدة في الجهة الشمالية الغربية من المسجد النبوي، وهي الآن حديقة تطل على السور الغربي للمسجد النبوي، دخلنا الحديقة مستعيدين في ذاكرتنا ذلك التاريخ المجيد يربطها بإجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار على مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة والإمارة، ولن ينقص دين تولى أمره مثل أبي بكر إمامًا، رضي الله عنه، وإني أشهد الله عز وجل أني لم أحب أحدًا بعد الأنبياء والمرسلين مثل حبّي لصاحب نبيِّنا في الغار، لا بارك الله في لسان تنجَّس بسبِّه، ولا بارك في قلب تدنَّس ببغضه.

كلمتي أمام أصحابي:

وألقيت بعد العصر كلمة أمام أصحابي الحجاج، استلفت الأنظار فيها إلى ما أنعم الله به علينا من حج بيته وزيارة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فذكّرتهم بوجوب الشكر تجاه هذه النعمة، وأن يؤثِّر الحج في حياتنا ويغيِّر اتجاهها المادي الدنيوي تغييرًا، والحج هو الخروج من العلاقات الظاهرة إلى التعلق بأمر الله تعالى، وهو إيثار حبّ الباقي على الفاني، وهو إنكار محبة الآفلين والكفر بها، والتوجُّه إلى فاطر السموات والأرض في إخبات وإنابة وإخلاص الدين له وحنيفية سمحة.

زيارة الشيخ إبراهيم الأخضر:

حرص شيخنا الكريم محمد بن ناصر العجمي على أن أزور الشيخ إبراهيم الأخضر، فتشوَّقت إليه، ونسَّق ذلك اللقاء عن طريق أحد تلامذته الشيخ يوسف الشويعي، فزرته اليوم في منزله مع بناتي سمية وفاطمة وعائشة بعد صلاة المغرب.

وهو الشيخ الكبير المحقق والمقرئ المدقق شيخ القراء بالمسجد النبوي فضيلة الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم، ولد في المدينة النبوية سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف، قرأ على كبار المشايخ والعلماء كالشيخ حسن الشاعر، والشيخ أحمد الزيات، والشيخ عامر السيد عثمان رحمهم الله، ولازم الشيخ العلامة عبدالفتاح القاضي، ومن مشايخه أيضًا الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي، والشيخ عبدالله الغنيمان، صلى بالناس إماماً في المسجد الحرام ثم في المسجد النبوي، تميزت مجالسه في الإقراء بالفوائد الكثيرة المعتبرة والأساليب الجديدة المبتكرة، وسجل في مجمع الملك فهد مصحفاً برواية حفص عن عاصم، وآخر برواية ورش عن طريق نافع.

والشيخ يتَّسم برجاحة عقل وحلم ورزانة وفقه لواقع المسلمين، حدثني عن زياراته للهند وبريطانيا، ووضع المسلمين في تلك البلاد، وتفرقهم وتشرذمهم، وإهدار أموالهم في بناء مساجد لدواع طائفية وحزبية ومذهبية، وسألني عن أعمالي مشجّعا إيَّاي على التعليم والتأليف والدعوة إلى دين الله والسعي لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم.

الشيخ يوسف الشويعي:

ولد الشيخ يوسف عبد الله الشويعي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف، وتخرج في كلية أصول الدين من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ثم عمل الماجستير من جامعة الأزهر في القاهرة، واستفاد أيضًا من الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ محمود سكر، والشيخ إبراهيم الأخضر علي القيم شيخ القراء في المسجد النبوي الشريف، والذي كان له الأثر البالغ في الارتقاء بفهمه وإتقانه للقرآن، بل وفي مناحي الحياة الأخرى.

وقد كان رفيقًا في حديثه معي، مهذبا لينا، وحريصا على إخباري بتاريخ المدينة المنورة وتطوراتها الحضارية، خاصة مشروع السكة الحديدية فيها، والتي تربط الحرمين بصورة غير مسبوقة، وتيسر للحجاج والمعتمرين التنقل بين البلدين تنقلا سريعا.

الشيخ العجمي

العلامة الكبير، الكاتب المبدع الفصيح، صاحب الأدب الجم والخلق الرفيع، عظيم الذكاء، شيخنا وأخونا محمد بن ناصر العجمي الكويتي، وإذا ذكرت الكويت سبقت الفِكَر إليه لا إليها، فأهلا بدار سبتني جوهرة من جواهرها المتألقة، أكثرها نشرًا للعلم وأجودها بحثًا وتحقيقًا، تبلغ محققاته ومؤلفاته نحوا من مائة كتاب في مواضيع من الحديث والسيرة والتاريخ، دُرُّ لفظ ومعنى يُريك الدرَّ خرزا، ويستغرق حرف منه الكلمات والجمل استغراقا، وتمتاز كتاباته بحذق في الصياغة وتحسين نظم الكلام، يقرأها القارئ فينتفع بها انتفاعا ويزداد بها علما وفقها ويستلذ بها أيما استلذاذ، وهو من أصدقائي الأوفياء، وخلص الأخلاء، ومن القلة الذين أنست بهم فأحببتهم، وإذا قيل الود والصفا فهو أخو الود والصفا، سما بهمة سما فسما، فما يُلقى بمرتبة قنوعا.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين