قَواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ (5) في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود

المبحث الرابع

الحدودُ من أمورِ السِّياسةِ التي لا تُحمَّل مسؤوليَّاتها لعامة الناس

عندما نتتبع أوامر الشريعة الإسلامية فإننا نرى من نصوصها ما هو عام لكل مسلم كالأمر بالإيمان والصلاة، ومنها ما هو خاصّ موجه لفئة معيَّنةٍ من الأمة كالأمر بالزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والإنفاق فإنه وإن كان الأمر فيه عامًّا لكل الأمة، فإن هذا الأمر لا يفيد الوجوب في حق المكلف بعينه حتى يكون قادرًا على أدائه أو ممن اجتمعت فيهم شروط التكليف، كالأمر بالحج والزكاة فإنه موجه إلى الأغنياء والقادرين...

وكذلك أمور الحكم وإدارة الدول فإنها موجهة إلى الحكام والقضاة وأولي الأمر وأصحاب القدرة، وكل منهم مكلف بجزء مخصوصٍ من أحكامها... أما أن يُدَّعى أنَّ الأمر بهذه الأحكام موجَّهٌ إلى كل أحد من المسلمين، فيظن البعض نفسه وصيًّا على الخلافة ووصيًّا على إقامة الشرع، فإن في هذا أنواعًا من الفساد لا تحصى، وقد رأيناها في بلاد الشام، وقبلُ في العراق والجزائر والصومال ومالي وأفغانستان، فكلما تغلبت مجموعة من هؤلاء القاصرين على قرية أعلنوها إمارةً إسلاميَّةً تعقد فيها بيعة لنكرة يسمُّونه أميرًا، تجب طاعته في اليسر والعسر والمنشط والمكره على حد تعبيرهم، ثم ينشئون محاكمَ شرعيَّةً يعقدون فيها مجالس القضاء التي تتطاير فيها رؤوس المخالفين يمنة ويسرة تحت شعار إقامة الحدود والحكم بما أنزل الله.

وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم حديث رعاع الناس في شؤون المسلمين العامة من علامات فساد الزمان وانقلاب الموازين قرب ظهور الدجال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهِمُ الرُّوَيْبِضَةُ)) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: ((الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ))(1).

ولهذا فإنه من الإجرام في حق الأمة والمجتمع ما تقوم به بعض الجماعات من تحميل مسؤولية إقامة "منصب الخلافة" لكل فرد، مما جعل الخلافة كلمة مبتذلة على الأفواه وفي أذهان الناس بعد أن حمَلها وتكلَّم بها من ليس أهلًا للحديث عنها، وهي إنما يخاطب بها أهل القدرة من الأمراء والعلماء وأهل السطوة في الأمة... والحدود في ذلك كالخلافة - إذ هي جزء من مهامها - إنما يخاطب بها أهل الحُكم من ملوك وأمراء وقضاة وأصحاب السلطة الاجتماعية من علماء ورجال سياسة وأعمال، ولا يخاطب بها الجهلة ومن ليس من أهل الاختصاص، ممن لم يتوجه خطاب الشارع إليه في هذا المسائل.

قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: (لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام، لأنه لم يُقَم حدٌّ على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حقٌّ لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام...)(2).

ولعل في الواقعة التي نقلت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجته الأخيرة بيانًا شافيًا لنا في هذه المسألة، روى الإمام البخاريُّ بسنده إلى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهْوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا؛ إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلاَنٍ! يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَنًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ فَلْتَةً فَتَمَّتْ! فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ)). 

بهذه الكلمات البسيطة يقرر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاعدة كبرى من قواعد السياسة الإسلامية وهي: أن السلطة في تنصيب الحاكم للأمة، مما يترتب على ذلك عدم شرعية الحكام الذين يأخذون السلطة غصبًا دون أن يكون للمجتمع أو لقادته رأيٌ في اختيارهم... ولكن لما أراد عمر أن يخطب وقف في وجهه مستشاره الأمين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال له: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لاَ يَعُوهَا، وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدُمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا!)(3).

وبالفعل فقد رأى عمر رضي الله عنه الصواب في نصيحة مستشاره الأمين فأجَّل الخطبة حتى يرجع إلى المدينة ويتكلم مع أهل الفهم والاختصاص.

وهذا الكلام من ابن عوف وعمر رضي الله عنهما واضح الدلالة على أنه ليس من الحكمة الحديثُ أمام عامة الناس في أمور تخص الحاكم والدولة والسياسة، فالعامة لا يفهمونها بل قد يثيرون الفتن عند سماعها، وإنما المختصون بمناقشة أمور الحكم والسياسة هم طبقة خاصة من المجتمع تتمتع بالفهم والعقل والعلم.

ثم كان من كلام عمر في خطبته يوم رجع إلى المدينة: ((فَمَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يُتَابَعُ هُوَ، وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ)) فأيما رجل خرج يطلب الحكم بدون مشورة المجتمع وأهل الرأي والحكمة فيه فحقه القتل هو ومن بايعه.

وهذان الأمران وهما وجوب مشورة أهل الرأي والحكمة في اختيار الحاكم، وعدم إدخال عامة النَّاس في أمور سياسيَّة لا يفقهونها؛ لَهُما من أبرز معالم نظام الحكم في الإسلام، الذي اختص بتشريعات حكيمة تحوي في ثناياها كل مزايا الاتجاهات السياسية الأخرى وتتجنب مساوئها.

مسألة: إن تجنيب العامة مسائل الحكم وتطبيق الحدود لا يعني أبدًا ألّا نُفقِّههم بها ونعلِّمَهم إياها ونعرفَّهم على حكمة الإسلام في تشريعها، بل إن تعليمهم هذه الأمور من واجبات الدين التي تعرّف المرء بأحكام ربه وتحفظ له دينه فلا تلتبس عليه الشبهات التي تثار حول التشريعات الإسلامية اليوم، وإنما الممنوع هو أن يُحمَّلَ مسؤولية تطبيقها أو يوهَم بأن الله سيحاسبه إن لم يسع لها؛ وهو أصلا ليس من أهل هذا الشأن ولا ممن توجّهَ إليه التكليف بذلك.

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

يتبع

الحلقة الرابعة هــــنا

--------

(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى العطا، طبعة دار الكتب العلمية 1990م، (ص 4/512) رقم الحديث ( 8439) وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي... وفي سنن ابن ماجه تحقيق الأرناؤوط طبعة دار الرسالة 2009م، باب شدة الزمان، (ص 5/162) رقم الحديث (4036).

(2) - المجموع شرح المهذب للإمام النووي طبعة دار الفكر، (ص 20/34).

(3) - صحيح البخاري، باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت، رقم الحديث (6442).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين