قَواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ  (4)

في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود

المبحث الثالث

وحدةُ الدَّولةِ مقدَّمةٌ على إقامةِ الحدودِ

عندما بويع الصحابيُّ الجليل عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه بالخلافة، كان أول عمل سيقوم به هو الاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكنّه رأى في تطبيق القصاص في تلك المرحلة مفسدة أكبر من المصلحة المرتجاة من تطبيقه، ألا وهي خروج عشائر القتلة على الدولة الإسلامية، وبالتالي دخول الأمة في حروب طاحنة قد تؤدي إلى انهيار الدولة، ورأى أن الحروبَ مع المطالبين بتعجيل القصاص وهم طلحة والزبير ومعاوية - رضي الله عن الجميع - أقلُّ ضررًا من تطبيق القصاص في تلك المرحلة الحرجة، بل وأقل ضررًا من الاستجابة لهم، لما في الاستجابة لمخالفيه من سقوطٍ لمكانة الخلافة وهيبة الحُكمِ، فيدفع ذلك كل ذي هوى إلى التطاول على مكانة الدولة في قابل أيَّامها، ومعلوم ما في هذا الأمر من ضياع للسلطة وانفراط لعقد الأمة وإطماع للعدو في بلادها ورعيَّتها.

فترْكُ القصاص شر، والحرب ضد معاوية وغيره شر آخر، ولكن أمير المؤمنين عليًّا كرم الله وجهه دفع أعظم الشرين بأهونهما، فرفض الاقتصاص من القتلة في تلك المرحلة ورضي بمواجهة الآخرين على القاعدة المشهورة: (إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما)...

ولا بد لنا من الوقوف على أقوال أهل العلم في هذه الواقعة، لعل في أقوالهم نورًا مبينًا يبدد ظلمات الجهل، ويكشف الحق لطالبيه.

يقول الإمام الباقلّانيُّ رحمه الله: (وعَلى أَنه إِذا ثَبت أَن عليًّا مِمَّن يرى قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ؛ لم يجز أَن يقتل جَمِيع قتلة عُثْمَان إِلَّا بِأَن تقوم الْبَيِّنَة على القتلة بأعيانهم، وَبِأَن يحضر أَوْلِيَاء الدَّم مَجْلِسه، ويطالبوا بِدَم أَبِيهِم ووليِّهم، وَلَا يَكُونُوا فِي حكم من يعْتَقد أَنهم بغاة عَلَيْهِ وَمِمَّنْ لَا يجب اسْتِخْرَاج حق لَهُم دون أَن يدخلُوا فِي الطَّاعَة ويرجعوا عَن الْبَغي، وَبِأَن يُؤَدِّي الإِمَامَ اجْتِهَادُه إِلَى أَن قتْلَ قَتَلةِ عُثْمَان لَا يُؤَدِّي إِلَى هرج عَظِيم وَفَسَاد شَدِيد؛ قد يكون فِيهِ مثل قتل عُثْمَان أَو أعظم مِنْهُ، وَإِنَّ تَأْخِيرَ إِقَامَة الْحَد إِلَى وَقت إِمْكَانه وتقصي الْحق فِيهِ أولى وَأصْلحُ للْأمة وألمُّ لشعثهم وأنفى للْفَسَاد والتهمة عَنْهُم، هَذِه أُمُور كلهَا تلْزم الإِمَام فِي إقامة الْحُدُود واستخراج الْحُقُوق، وَلَيْسَ لأحد أَن يعْقد الْإِمَامَة لرجل من الْمُسلمين بشريطة تَعْجِيل إِقَامَة حد من حُدُود الله، وَالْعَمَلِ فِيهِ بِرَأْي الرّعية، وَلَا للمعقود لَهُ أَن يدْخل فِي الْإِمَامَة بِهَذَا الشَّرْط..)(1).

وقد تكلم الإمام الطَّحاوي رحمه الله عن أسباب امتناع الإمام عليٍّ كرم الله وجهه عن القصاص في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة بقوله: (وَكَانَ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ - مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِعَيْنِهِ، وَمَنْ تَنْتَصِرُ لَهُ قَبِيلَتُهُ، وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بِمَا فَعَلَهُ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ نِفَاقٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِهِ كُلِّهِ)(2).

يقول ابن تيمية: (بل لم يكن عليٌّ مع تفرق الناس عليه متمكّنًا من قتلِ قَتلةِ عثمانَ إلا بفتنةٍ تزيد الأمر شرًّا وبلاءً، ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس، لأنهم كانوا عسكرًا وكان لهم قبائل تغضب لهم، والمباشر منهم للقتل وإن كان قليلًا فكان رِدْؤهُم أهل الشَّوكة، ولولا ذلك لم يتمكنوا... ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلةَ عثمان قام بسبب ذلك حربٌ قتل فيها خلق، ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت عليٍّ وصار أميرًا على جميع المسلمين ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان)(3).

الخلاصة: لا بد لهذا الدرس أن يكون نورًا للسَّالكين والمتبصّرين، فهذا الإمام عليٌّ كرم الله وجهه لم يقل بأن القصاص غير واجب تبريرًا لعدم قدرة الدولة على تنفيذه، كما لم يدفعه التزامه بكافة أوامر الشرع إلى القيام بأعمال قد تؤدي إلى انهيار دولته... وإنما أخذ بكل ما جاء في الشرع من نصوصٍ ومن قواعد المصلحة الكليّة المعروفة عند المجتهدين من الصحابة ومن على دربهم.

وهذا ما نقوله اليوم في سوريا وغيرها من بلاد الإسلام التي تعاني من الاضطرابات، لا تجوز إقامة الحدود في فترة فتنة ومحسوبيات وتصفية حسابات تحت اسم المحاكم الشرعية، لما في ذلك من إشعال للفتن وتحكيم للهوى وعصيان لله ورسوله وبعد عن نهج الخلفاء الراشدين، وإنما تقام على المذنبين عقوبات مؤقتة من حجز وتعزير تكفي لضبط المجتمع ريثما يستقر الوضع، وتنفذ فيهم العقوبات المناسبة لجرائمهم... 

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

يتبع

الحلقة الثالثة هنا 

(1) - تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني، طبعة مؤسسة الكتب الثقافية - لبنان 1987م، (ص 551).

(2) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، طبعة مؤسسة الرسالة 1997م، (ص 2/723).

(3) - منهاج السنة لابن تيمية تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، مؤسسة قرطبة، (ص 4/236).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين