قَواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ (3)

في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود

المبحث الثاني :دَرءُ الحدِّ بسببِ شيوعِ الحاجةِ

في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي العام الثامن عشر من الهجرة أجدبت الأرض وقحطت السماء فجاع الناس جوعًا شديدًا، اضطرّ بعض النّاس بسببه للسَّرقة، وقد اشتهر أن عمر رضي الله عنه قام بدرء حدِّ السرقة عن بعض العبيد الّذين سرقوا في تلك السّنة المجدبة، حيث اعتبر انتشارَ الجوع شبهةً مانعةً من إقامة الحدِّ... ولم يكتف بإسقاط الحدِّ عنهم بل عاقب سيّدهم وغرَّمه لأنه كان متسبّبًا فيما فعله عبيده إذ كان يتعبهم ولا يشبعهم، ((عن مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ بن أبي بلتعة سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَانْتَحَرُوهَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: (إني أَرَاكَ تُجِيعُهُمْ، وَاللَّهِ لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ) ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: (كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟) قَالَ: أَرْبَعمائَة دِرْهَمٍ، قَالَ عُمَرُ: (أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَة دِرْهَمٍ))(1).

فعلمنا من ذلك أنه قد تطرأ على المجتمع ظروف يكون تطبيق الحدود فيها ظلمًا للناس، ليس لأن الحدود غير عادلة أو غير واجبة، بل لأن المجتمع أصبح هو بحدِّ ذاته سبب الجناية، فلا يُحمَّل الفردُ مسؤوليةَ مجتمعِه... ونلاحظ أن عمر قد جعل من شيوع الجوع شبهةً كافيةً لدرء الحد، وكذلك يكون النظر في كل جناية وعقوبتها فإن كان سببُها المجتمع لجأ الحاكم إلى عقوباتٍ تعزيريَّة مناسبة تعتمد الموازنة في تحميل الخطأ لمرتكبه أو للمتسبب به كلّ بمقداره... ولكن إن كانت السرقة أو غيرها من الجنايات مسببة عن الشخص نفسه وليس للمجتمع دخل فيها؛ ثبت الحدُّ على مرتكبها كأن يسرق لغير حاجة طمعًا وزيادةً في الثروة...

والحقيقة أنه ينبغي لأهل العلم أن يقفوا في القضية حيث وقف عمر رضي الله عنه ولا يتجاوزوا ذلك... إذ يستدل بعض الحداثيين بهذه الواقعة على إلغاء الحدود تمامًا، وجوازِ الاجتهاد على خلاف النصِّ القرآنيِّ بناءً على المصلحة أو على التشريع بالرأي، وليس الأمر كما أوهمتهم نفوسهم... (والحق أن الأمر ليس تقديمًا للمصلحة على النص ولا تعطيلًا لحد من حدود الله.. ولكنه بولايته العامة وجد أن شروط النص غير منطبقة، إذ توجد شبهة قوية تحول دون تطبيق الحد أو تدرؤه، وهو الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)) وسمعه كذلك يقول: ((لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)) وهو الذي ترجمه القانونيون المحدثون بقولهم: [إن العدالة تتأذى من إدانة بريء واحد لكنها لا تتأذى من تبرئة مائة متهم] وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه لثمار البستان، فلما حقق القضية وجد أن صاحب البستان لا يعطي خادمه ما يكفيه، فقال له عمر: لو سرق بعد ذلك لقطعت يدك أنت! هذا الفقه السليم لإقامة الحدود الإسلامية هو الذي فقهه عمر فوجد أن الرمادة شبهة كبيرة تدرأ الحد.. فوجد أن شروط النص لا تنطبق، وليس معنى ذلك تقديم المصلحة على النص، إنما هو اجتهاد داخل النص نفسه للبحث في توافر شروط الجريمة وشروط العقوبة)(2).

ومن يتأمل واقعنا يرى مجتمعنا الإسلاميَّ يعيش الرمادة والمجاعة على كل المستويات الدينيَّة والأخلاقيَّة والفكريَّة، وهذا ما يدعونا اليوم إلى إعادة النظر في أولويّات الجماعات الإسلاميّة وطريقة تعاملها مع المجتمع... فيا من تنادون بالإسلام صباح مساء! بدل أن تلوموا النّاس لوموا أنفسكم، هل فعلتم ما يتوجب عليكم لتثبيت الإيمان في القلوب حتى يفعل الناس ما يتوجب عليهم من العمل بأحكام الله؟ أم أنكم بخلافاتكم ونزاعاتكم والفضائح التي تنال كباركم والخرافات التي تعج بها عقول أتباعكم؛ قد أفقدتم النَّاس الثقة بكل من يتكلم باسم الدين! نعم نحن اليوم جزءٌ من المشكلة التي نتكلم عنها وعلينا أن نتحمل مسؤوليَّاتنا بدل أن نحمِّلها للآخرين.

فاحذر أيها المسلم الغيور إن وُلِّيتَ شيئًا من أمر المسلمين أن تجور عليهم أو تظلمهم، فتبوء بغضب الله من حيث قصدت رضاه، واعلم أن للمجتمع عليك واجباتٍ كثيرة قبل أن تصل إلى مرحلة تطبيق الحدود، فقبل أن تقطع يد السارق أطعمه، وقبل أن تجلد الزاني أو ترجمه علمه وأدبه، وقبل أن تجلد شارب الخمر هيئ له ظروف صلاحه، وقبل أن تحكم بالردة على من يسب الدين علمه حرمة الدين، فإن أقمت عليهم الحدود قبل أن تعلمهم وتهيئ لهم مجتمعًا نظيفًا يعيشون فيه فقد ظلمتهم، وأولويَّتك اليوم أن تهيئ المجتمع ليتحمل أعباء الحكم الإسلامي ويتقبل مفاهيمه بدل أن تكرهه على ما يجهل وتأطُره عليه أطرًا فتكون سبب فتنة له في دينه...

اعتراض ورد:

الاعتراض: يحاول البعض الطعن في رواية درء عمر رضي الله عنه لحد السرقة بشبهة الجوع بقولهم: إنها غير ثابتة لضعف سندها، بل جزم بعضهم بأنها مكذوبة مختلقة على عمر رضي الله عنه! وتلك هي حجة الضعفاء وأهل البدع في كل زمان، إن لم يوافق النص فهمهم ضعّفوه، فإن لم يجدوا سبيلًا لذلك أوَّلوه وحمَّلوه من الأحكام ما ليس فيه، كحال ذي الخويصرة التميمي الذي لم يمنعه شيء من الاعتداء على حرمة النبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بالجور والبعد عن العدالة.

الرد: رغم ما ذكر في سند هذه القصة فإنه لا يطعن فيها لأنها ثابتة معتمدة عند مجتهدي فقهاء السلف الصالح، إذ جعلوها أساسًا تستنبط منه الأحكام في مسألة تغريم العبد بجنايته أو تغريم سيده، وحكم تغريم السيد بضعف قيمة الشيء المتلف، بالإضافة إلى تقريرهم درء حد السرقة بالجوع... وممن احتج بهذه الرواية الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد، وممَّا يؤكِّد ما نقل من اجتهاد عمر في هذه المسألة؛ تقريره هذه الفتوى في مواضع أخرى ورواية الأئمة لذلك عنه كقوله: ((لاَ يُقْطَعُ فِي عِذْقٍ، وَلاَ فِي عَامِ سَنَةٍ))(3).

وقد تحدث ابن القيِّم طويلا عن اجتهاد عمر رضي الله عنه في هذه المسألة فقال: (فَصْلٌ [مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ عَامَ الْمَجَاعَةِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْقَطَ الْقَطْعَ عَنْ السَّارِقِ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ... عَنْ عُمَرَ قَالَ: ((لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي عِذْقٍ وَلَا عَامِ سَنَةٍ))، قَالَ السَّعْدِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: (الْعِذْقُ: النَّخْلَةُ) و (عَامُ سَنَةٍ: الْمَجَاعَةُ)، فَقُلْت لِأَحْمَدَ: تَقُول بِهِ؟ فَقَالَ: إي لَعَمْرِي، قُلْت: إنْ سَرَقَ فِي مَجَاعَةٍ لَا تَقْطَعُهُ؟ فَقَالَ: لَا، إذَا حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ عَلَى ذَلِكَ وَالنَّاسُ فِي مَجَاعَةٍ وَشِدَّةٍ.

قَالَ السَّعْدِيُّ: وَهَذَا عَلَى نَحْوِ قَضِيَّةِ عُمَرَ فِي غِلْمَانِ حَاطِبٍ... وَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى مُوَافَقَةِ عُمَرَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، فِي مَسَائِلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ الَّتِي شَرَحَهَا السَّعْدِيُّ بِكِتَابٍ سَمَّاهُ الْمُتَرْجِمُ، قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَحْمِلُ الثَّمَرَ مِنْ أَكْمَامِهِ، فَقَالَ: فِيهِ الثَّمَنُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَقَالَ: وَكُلُّ مَنْ دَرَأْنَا عَنْهُ الْحَدُّ وَالْقَوَدُ أَضْعَفْنَا عَلَيْهِ الْغُرْمَ، وَقَدْ وَافَقَ أَحْمَدَ عَلَى سُقُوطِ الْقَطْعِ فِي الْمَجَاعَةِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ السَّنَةَ إذَا كَانَتْ سَنَةَ مَجَاعَةٍ وَشِدَّةٍ غَلَبَ عَلَى النَّاسِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ... وَعَامُ الْمَجَاعَةِ يَكْثُرُ فِيهِ الْمَحَاوِيجُ وَالْمُضْطَرُّونَ، وَلَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْتَغْنِي مِنْهُمْ وَالسَّارِقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَدُرِئَ، نَعَمْ إذَا بَانَ أَنَّ السَّارِقَ لَا حَاجَةَ بِهِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ السَّرِقَةِ قُطِعَ)(4).

لعل في هذا العرض الموجز للأحكام التي استنبطها مجتهدو سلفنا الصالح من هذه القصة كفايةً لباغي الحقِّ والرَّشاد، وأما من استحكمت بدعته في قلبه فلا يقنعه شيء من ذلك، ولو كان صريحًا في كتاب الله وسنة رسوله لأن مرضه كمرض ذي الخويصرة الذي لم يمنعه شيء من الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه العجب والكبر على عباد الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة من ذلك.

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

يتبع 

الحلقة الثانية هنا

-----------

(1) - موطأ الإمام مالك، تحقيق بشار عواد معروف ومحمود خليل، طبعة مؤسسة الرسالة 1412، (ص 2/470). 

(2) - المصلحة المرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها، المؤلف: علي محمد جريشة، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، طبعة السنة العاشرة - العدد الثالث، ذو الحجة 1397هـ (ص 48).

(3) - مصنف ابن أبي شيبة، بترقيم دار القبلة، باب في الرجل يسرق الثمر والطعام رقم الحديث (29179)، وفي مصنف عبد الرزاق، تحقيق الأعظمي طبعة المجلس العلمي في الهند 1403، رقم الحديث (18990).

(4) - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم، طبعة دار الكتب العلمية 1991، (ص 3/18 و19).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين