قَواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود(2)

المبحث الأول

ترك حدِّ الردّة تأليفًا لقلوبِ النّاس وحذرًا من النُّفورِ عن الدّين

أجمع أهل السنة والجماعة على قتل المرتد واستدلوا لذلك بالكثير من النصوص وأفعال النبي صلى الله عليه وخلفائه، منها ما رواه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من بدل دينه فاقتلوه))( )، وهو حَدُّ حَقٍّ شرَعه الدين لحفظ المجتمع المسلم من الفتنة وردع الفسقة من التلاعب بالدين... وهو من جملة أحكام السياسة الشرعية التي يرجع الأمر فيها إلى الحاكم المسلم لما يعرض للحكم من أمور دقيقة وخطيرة قد تنقل حكمه من باب إلى باب آخر في الفقه الإسلامي كما سنرى في فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ من خلال واقعتين شهيرتين في السيرة النبوية.

الواقعة الأولى: ترك قتل عبد الله بن أبي بن سلول

عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِن الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا - أي ضربه - فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟)) ثُمَّ قَالَ: ((مَا شَأْنُهُمْ؟)) فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ!))، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا! لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ! فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْخَبِيثَ - لِعَبْدِ اللهِ - ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَه))(1)، وفي رواية الإمام أحمد ((يَا عُمَرُ، دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))(2).

وقد نقل الإمام ابن العربي رحمه الله أقوال العلماء في تحليل هذه الحادثة فقال: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ... الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ سِوَاهُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا؟ .

الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِمَصْلَحَة تَأَلُّفِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهُ، وَقَدْ أَشَارَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: ((أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)).

الثَّالِثُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْتَلُ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَتِبْهُمْ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ، فَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي قَالَ إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ جَائِزَةٌ قَالَ مَا لَمْ يَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا.

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِعِلْمِهِ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ؛ لِأَنَّ الْمُجَذِّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثَ، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ الْحَارِثُ فَقَتَلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ تَأَلُّفًا وَمَخَافَةً مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّنْفِيرِ، كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا كَمَا كَانَ يُعْطِي الصَّدَقَةَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ، أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الَّتِي سَنَّهَا إمْضَاءً لِقَضَايَاهُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا) (3).

ولعل من يقول إن هذا الرجل منافق، ولا علاقة لهذه الحادثة بحكم الردة، والجواب على ذلك من وجهين، الأول: نعم كان ابن سلول منافقًا يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ولكن تلفظه بهذه الكلمة في هذا الموقف زاد له وصف الكفر والردة الظاهرة، حيث أعلن الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف اثنان في أن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردة، والثاني: لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم علة تركه لقتلهم ألا وهو [حديث الناس!] ((أتريد أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟)) ولا أدري كيف يُدَّعى بأن الأخذ بنص الحديث خطأ، ومخالفة نصه صواب؟

وقال الإمام النووي رحمه الله معلقا على هذه الحادثة: (فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِلْمِ، وَفِيهِ تَرْكُ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ الْمَفَاسِدِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفَ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى جَفَاءِ الْأَعْرَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ لِتَقْوَى شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَتِمُّ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَيَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤَلَّفَةِ وَيَرْغَبُ غَيْرُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ يُعْطِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ لِذَلِكَ وَلَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِإِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ وَقَدْ أُمِرَ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ...)(4).

وعلق الإمام ابن حجر بالمعنى نفسه على ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل الساحر لبيد بن الأعصم حيث قال: (لِأَنَّ تَرْكَ قَتْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُثِيرَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ فِتْنَةً أَوْ لِئَلَّا يُنَفِّرَ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا رَاعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْعِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))(5).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وقيل بل تَرَك حدَّه لمصلحة هي أعظمُ مِن إقامته كما ترك قتله مع ظهورِ نفاقه وتكلمِه بما يُوجب قتله مراراً، وهي تأليفُ قومه وعدمُ تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعًا فيهم، رئيسًا عليهم، فلم تُؤمن إثارةُ الفتنة في حدِّه)(6).

الواقعة الثانية "منع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي":

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ وَفِى ثَوْبِ بِلاَلٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِى النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ! قَالَ: ((وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ))، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ! فَقَالَ: ((مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ))(7).

قال الإمام ابن حجر رحمه الله معلِّلًا ترك النبيّ صلى الله عليه وسلّم قتل هذا الرجل: (وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَظْهَرَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، فَلَوْ قَتَلَ مَنْ ظَاهِرُهُ الصَّلَاحُ عِنْدَ النَّاسِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَرُسُوخِهِ فِي الْقُلُوبِ لَنَفَّرَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ قِتَالِهِمْ إِذَا هُمْ أَظْهَرُوا رَأْيَهُمْ وَتَرَكُوا الْجَمَاعَةَ وَخَالَفُوا الْأَئِمَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى قِتَالِهِمْ... وَقد ذكر ابن بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: التَّأَلُّفُ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لذَلِك لدفع مضرتهم، فَأَما إِذْ أَعْلَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ فَلَا يَجِبُ التَّأَلُّفُ إِلَّا أَنْ تَنْزِلَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ لِذَلِكَ، فَلِإِمَامِ الْوَقْتِ ذَلِكَ) ( 8) .

وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: (حَتَّى اسْتَأْذَنَ عُمَرُ وَخَالِدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِهِ فَقَالَ: ((مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)) فَهَذِهِ هِيَ العلة، وسلك مَعَهُ مَسْلَكَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آذَوْهُ وَسَمِعَ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْطِنِ مَا كَرِهَهُ لَكِنَّهُ صَبَرَ اسْتِبْقَاءً لِانْقِيَادِهِمْ وَتَأْلِيفًا لِغَيْرِهِمْ لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ فَيَنْفِرُوا)(9).

إن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواقف وأمثالها، بالإضافة لما ورد في القرآن الكريم من تقدير الأضرار كان الأصل الذي بنيت عليه قاعدة، إِذا تعَارض مفسدتان روعي أعظمهما ضَرَرًا بارتكاب أخفهما أو يختار أهون الشرين، وغيرها من الألفاظ التي جاءت بهذا المعنى.

قال الشيخ مصطفى الزرقا في تطبيقه على قاعدة إِذا تعَارض مفسدتان روعي أعظمهما ضَرَرًا بارتكاب أخفهما: (يتَفَرَّع على هَذِه الْقَاعِدَة تَجْوِيز أَخذ الْأُجْرَة على مَا دعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة من الطَّاعَات كالأذان والإمامة وَتَعْلِيم الْقُرْآن وَالْفِقْه، وتجويز السُّكُوت على الْمُنكر إِذا كَانَ يَتَرَتَّب على إِنْكَاره ضَرَر أعظم، كَمَا تجوز طَاعَة الْأَمِير الجائر إِذا كَانَ يَتَرَتَّب على الْخُرُوج عَلَيْهِ شَرّ أعظم، وَمِنْه جَوَاز شقّ بطن الْميتَة لإِخْرَاج الْوَلَد إِذا كَانَ ترجى حَيَاته)(10).

وقد قرر الإمام ابن تيمية رحمه الله هذه القاعدة فقال: (فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بقدر الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا)(11). 

اعتراض ورد: 

وقد اعترض بعضهم على الأحكام المستفادة من هذه الحادثة بفعل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ إذ قاتل أهل الردة ولم يلتفت إلى حديث الناس وقولهم إن أبا بكر يقتل أصحابه، وفعله هذا حجة على وجوب تطبيق الحدود وعدم اعتبار كلام الناس وتأليبهم على الإسلام! .

ويجاب على ذلك بأن قصة حوار أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حول حرب المرتدين لهي أوضح دليل على أن حد الردة من أحكام السياسة الشرعية التي يسوغ للحاكم الاجتهاد فيها، بحسب ما يراه من المصلحة والخير للمسلمين، فإنه مع اتفاق أبي بكر وعمر على ارتداد كل من فَرَّقَ بين الصلاة والزكاة وتلاعب بأحكام الدين فأقر ببعضها وأنكر بعضها بدون شبهة؛ فقد طالب عمر بتأخير قتالهم عن الذين ارتدوا كليًّا اعتمادًا منه للمصلحة في ذلك، إذ رأى أن المصلحة تكمن في قتال المرتدين على مراحل نظرًا لضعف المسلمين عن مواجهتهم جميعًا.

ولكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بنظرته الحكيمة لواقع الأمة في ذلك الوقت كان أبعد في النظر من عمر - وكلاهما على خير - ولذلك قرر قتالهم جميعًا، لما في ذلك من المصلحة وسرعة القضاء على المرض من أصله، وتثبيت أحكام الدين في أذهان المسلمين الجدد... فقد أدرك الصديق أن أي تساهل مع أي طائفة من المرتدين، أو حتى العصاة غير المرتدين سيؤدي إلى سقوط هيبة الدولة وانهيار مفاهيم الدين وضياع الدعوة الإسلامية، لهذا لم يفرق بينهم في القتال، بل إن أبا بكر رضي الله عنه شمل في قتاله من ليس مرتدًّا، وهم الناس الذين لم ينكروا فرائض الإسلام، ولكنهم فقط امتنعوا عن أداء الزكاة إلى الخليفة، فقد شملهم أبو بكر بالحرب مع المرتدين، لما في فعلهم من تطاول على مركزية الدولة الإسلامية، وتمرُّدٍ عليها.

ونتيجة لما سبق فإن قتال أبي بكر لأهل الردة كان تنفيذًا لحكم شرعيٍّ توفرت أسباب تطبيقه، ويحقق مصلحة ناجزة للمسلمين أكبر من تلك المصلحة التي ظنها عمر رضي الله عنه وأهمّ من كلام الناس، ولو وَجَد الصدّيق رضي الله عنه المصلحة في غير ذلك لما وسعه إلا اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير المصلحة، وهو أهل المحبة والاتّباع والطّاعة المطلقة لله سبحانه ولنبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

يتبع 

الحلقة الأولى هــــنا 

-----------

(1) - صحيح البخاري، تحقيق البغا طبعة دار ابن كثير 1987، كتاب الجهاد والسير، باب لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ رقم (2854)

(2) - رواه البخاري ومسلم صحيح البخاري، كتاب المناقب باب ما ينهى من دعوى الجاهلية حديث رقم الحديث (3330)... وفي صحيح مسلم، طبعة دار الخير 1996، كتاب البر والصلة والآداب، باب نَصْرِ الأَخِ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، رقم الحديث (2584).

(3) - مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرناؤوط، طبعة الرسالة، مسند جابر بن عبد الله (ص 23/389) رقم الحديث (15223). 

(4) - أحكام القرآن لابن عربي، تحقيق العطا، نشر دار الكتب العلمية 2003، (ص 1/21 و 22).

(5) - شرح النووي على مسلم، طبعة دار إحياء التراث العربي 1392، (ص 16/139).

(6) - فتح الباري لابن حجر، تحقيق محب الدين الخطيب، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي طبعة دار المعرفة 1379 (ص 10/231).

(7) - زاد المعاد لابن القيم طبعة مؤسسة الرسالة 1994، (ص 3/263).

(8) - صحيح البخاري باب علامات النبوة في الإسلام، رقم الحديث (3414)، ومسلم في باب ذكر الخوارج وصفاتهم، رقم الحديث (1063)، وقوله (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّى أَقْتُلُ أَصْحَابِي) ليست في البخاري.

(9) - فتح الباري شرح صحيح البخاري (ص 12/291).

(10) - شرح النووي على مسلم (ص 7/159).

(11) - شرح القواعد الفقهية، للشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا، طبعة دار القلم 1409هـ - 1989م، (ص 202).

(12) - مجموع الفتاوى لابن تيمية تحقيق أنور الباز وعامر الجزار، طبعة دار الوفاء 2005، (ص 23/343).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين