حملة نابليون على مصر (3)

ساطع الحصري وحوض البلقان

أوجزت في المقالتين السابقتين ردود الأستاذ ساطع الحصري على من زعم أنَّ الحملة الفرنسية على مصر كان لها آثار إيجابية ثقافية وسياسية واجتماعية، وقد أشرت إلى أبرز هذه المزاعم وعقبت على بعضها ببعض الآراء أو المستجدّات التي تؤكد ما ذهب إليه قبل نصف قرن، لأن ردوده ومناقشاته العلمية المذكورة نشرت أول ما نشرت عام 1948م.

وغنيٌّ عن البيان أن ساطع الحصري شيخ القومية العربية وإمام كُتّابها ودعاتها.. وأكاد أجزم بأن جميع من كتبوا في القومية نظروا في كتبه ومحاضراته، أو كانوا عالة عليه. بل تكاد جملة آرائهم وأقوالهم لا تخرج على وجه العموم عما كتبه الحصري رحمه الله.

وبما أنني أتفق معه في بعض الآراء وأخالفه في بعضها الآخر؛ فقد وجدت من واجبي أن ألفت النظر إلى نقطة واحدة مهمة تجمع بين التطور الملحوظ في فكرته عن العلاقة بين «القومية العربية والدين الإسلامي» بحسب عبارته، والحروب والصراعات الأخيرة في حوض البلقان! وهو الحوض الذي شهد فيه بنفسه نشوء القوميات، ولعله هو الذي فجّر في نفسه العامل القومي أو الفكرة القومية، وملاحظة ولادتها وتطورها في البلاد العربية.

اللغة والتاريخ

أشيرُ أولاً إلى أن صلتي بكتب الأستاذ ساطع الحصري تعود إلى خريف عام 1958 عندما قرأت كتابه «ما هي القومية»؟ بوصفه أحد المراجع الأساسية التي أشار علينا بقراءتها أستاذنا أبو هاشم محمد المبارك رحمه الله عندما كنا طلابًا في السنة الجامعية الثالثة. ومعلوم أن أستاذنا المبارك عالج المسألة القومية والعلاقة بين العروبة والإسلام في كثير من محاضراته وكتبه التي لم يكن ينقصها العمق، وإن كان ينقصها في بعض الأحيان جودة الترتيب والتبويب.

ولطالما أعجبت بمناقشة الحصري لسائر عوامل نشوء الأمم والقوميات فيما وراء عامل الدين وعاملي اللغة والتاريخ بوصفهما العاملين الرئيسين من وجهة نظره، أو بوصفهما «أسس الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية» بحسب عبارته. وبخاصة مناقشته وردوده القوية على نظرية المصالح الاقتصادية أو العامل الاقتصادي الذي أراد له الماركسيون أن يحل محل الدين واللغة والتاريخ جميعًا، بل الذين رفعوا رايته وكأنه المفتاح الوحيد الذي تُفتح به جميع المغاليق، والذي يتوقف عليه قيام الأمم والحضارات.. بل يتوقف عليه جنة النعيم التي كان الماركسيون يعدون بها الناس في الدنيا- كما فعل اليهود في وعود التوراة- بعد أن أسقطوا الآخرة وتبنّوا بعناد وغباء شديدين نظرية الإلحاد وقاموا بمحاربة الأديان، والتبشير بمقولة أن الدين أفيون الشعوب. ورحم الله الأستاذ عباس محمود العقاد الذي كتب في نقض جميع مزاعم الماركسيين صفحات كثيرة منها كتابه الصغير الحجم البالغ الأثر: «أفيون الشعوب المذاهب الهدامة».

هذا في الوقت الذي شعرت بالضيق- وربما الخنق- ينتابني من ردود الحصري على جمال الدين الأفغاني حول رأيه في الوحدة الإسلامية، وحول رفضه للقومية، التي كان يدعوها الأفغاني بالجنسية، وقوله- أي الأفغاني- إن ديانة المسلم هي جنسيته، وإن رابطة المسلمين المِلّية أقوى من روابط الجنسية واللغة، ولست الآن بصدد العودة إلى الملابسات التاريخية وطبيعة المهام والاهتمامات التي حكمت رؤية كل من الرجلين. كما أنني لست بصدد التوفيق بين آراء جمال الدين ورأي الحصري، مع تسليمنا بأن وضع مسألتي القومية والدين، أو العروبة والإسلام، موضع المقابلة والتضاد ليس صحيحًا على كل حال.

ولا أذكر أنني وقفت طويلاً أو عنيت بتبني الحصري لآراء على عبد الرازق في الخلافة والتي أودعها كتابه أو رسالته «الإسلام وأصول الحكم» لا أدري لماذا؟ ولا أذكر أنني أثرت هذا الموضوع مع أستاذنا أبي هاشم رحمه الله.

وقرأت بعد ذلك أو درست كتابه «محاضرات في نشوء الفكرة القومية» وهو فيما أذكر عبارة عن ثمان محاضرات ألقاها في جامعة فؤاد الأول- جامعة القاهرة لاحقًا- وشعرت بالضيق والاستهجان ينتابني مرة أخرى أمام إصرار الحصري على فصل الدين عن القومية، وتكريس علمانيتها عنده، في الوقت الذي أعاد (الفضل) في هذا الفصل، أو هذا التحرير للقويمة من صلتها بالدين إلى بعض الكتّاب المسيحيين، أو في الوقت الذي كان هؤلاء الكتّاب أسبق من المسلمين في الحديث عن القومية المجرّدة من الدين!

علمانية غير مبررة

المشكلة في ساطع الحصري أن تشدده العلماني غير مفهوم وغير مبرر كذلك؛ على الرغم من الأحوال السيئة التي آلت إليها الدولة العثمانية في ظل حكم الاتحاديين الذين دعوا إلى القومية الطورانية وإلى سياسة التتريك التي أرادوا من خلالها صبغ جميع شعوب الدولة أو الإمبراطورية العثمانية بالصبغة التركية؛ لأن رد العرب على هذه السياسة كان منطقيًا ومبررًا وكافيًا في الوقت نفسه. بمعنى أن تجاوزه سوف يلحق الضرر بالعرب والعروبة نفسها في نهاية المطاف؛ وذلك على نحو ما فعل الحصري في غمرة حماسته لقوميته العلمانية!

لقد طالب العرب بإعطاء اللغة العربية مكانتها في الدولة، وعدّها لغة رسمية في البلاد العربية، كما طالبوا باللامركزية في نظام الحكم بحيث يكون للولايات العربية حق المشاركة في تيسير شؤونها والتصرف بمرافقها. وحتى عندما بلغ الأمر إلى حد المطالبة بالاستقلال التام عن الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى أمام تعسف الاتحاديين وبطشهم وحربهم ضد العروبة والإسلام معًا، بل ضد الأتراك والرابطة العثمانية نفسها؛ فإن الأمر لم يصل إلى حد تبنّي القومية العربية العلمانية أو المفصولة عن الإسلام، اللهم إلا عند نفر قليل من المتطرفين أو من أصوات المهجر الذين انقطعت صلتهم الحقيقية بأوضاع البلاد.

بل إن التيار العام في الدعوة إلى العروبة لم يتخل حتى عن فكرة الجامعة الإسلامية أو لم يناصبها العداء على أقل تقدير، أي أن العروبة لم تكن رابطًا ثقافيًا حضاريًا يعمل في بوتقة الحضارة والثقافة العربية الإسلامية ويمتد في بُعدها وتجربتها التاريخية.. فحسب، بل كانت كذلك دعوة سياسية تلتقي في نهاية المطاف مع الرابطة أو الجامعة الإسلامية، يدل على ذلك: أن الغرب تعامل مع العروبة على أنها العثمانية الجديدة أو المحدثة، تمامًا كما فعل مع محمد علي باشا في مصر.. أي أنها نزعة تجديد وتوحيد في مقاومة الهيمنة الغربية! «فالعروبة ممنوعة، وسياسة إنكلترا كما وصفها مرة سفيرها في العراق: القول بالوحدة ومنع تحقيقها» على حد قول الكاتب والسياسي اللبناني السيد منح الصلح. فقول ساطع الحصري إنه «لا الدين ولا الدولة ولا الحياة الاقتصادية، ولا الرقعة الجغرافية تدخل بين مقومات الأمة الأساسية» فيه خطأ وخلط. ويبقى تشديده في عامل الدين، أو استبعاده لهذا العامل الرئيس على الأقل في نطاق العلاقة الخاصة بين العروبة والإسلام غير مبرر وغير منطقي!

الدين في حوض البلقان

بل إن هذا الاستبعاد يكاد يستعصى كذلك على الفهم إذا علمنا أن المدة التي قضاها الحصري في البلقان عاملاً في السلك الإداري العثماني وفي ميدان التعليم، هي التي ولّدت في نفسه أو أذكت فيها الشعور القومي أو تبني الفكرة القومية والدعوة إليها والدفاع عنها، علمًا بأنه ينحدر من عائلة عربية أصلها من الحجاز وقدمت إلى حلب في القرن التاسع الهجري.

وغنيٌّ عن البيان أن (الدين) كان أشد عوامل القوميات البلقانية ظهورًا!! بل ربما ضاقت الدائرة إلى حدود (المذهبية) في نطاق الدين الواحد! في بعض الأديان. وقد لا يحتاج هذا الأمر إلى تأكيد أو توثيق أمام ما جرى ويجري اليوم في البوسنة والهرسك وكوسوفا بعد عشرات السنين. ومع ذلك أحيل فقط على جملة الوقائع والآراء التي نقلها الأستاذ الدكتور عمر فروخ رحمه الله من كتاب عنوانه: «البلقانيون: تاريخ موجز لبلغارية والصرب واليونان ورومانية وتركية» ألّفه جماعة من كبار المؤرخين ومن ذوي الشهرة أيضًا، وطبعته جامعة أكسفورد عام 1915. وتدل كلها غلبة العنصر الديني في قوميات البلقان. [راجع كتاب تجديد التاريخ للدكتور فروخ. طبع دار الباحث اللبناني]. وأكتفي بالإشارة إلى أن مطران بعض المدن الصِّربية قام بجمع الثوار في بعض الأديرة- دير ماغاسبلايون- ثم رفع غطاء المذبح على أنه الراية القومية!

لا يدري الباحث كيف أن الحصري لم يلق بالاً لهذا العامل الديني في حوض البلقان؟ ويبدو أنه لم يفعل ذلك في ظل محاولته التأكيد على الهوية العربية والانتماء القومي في مواجهة الاتحاديين الذين بقوا يحكمون الدولة العثمانية باسم الإسلام أو تحت الراية العثمانية، على الرغم من أنهم- أو معظمهم- كانوا من يهود الدونما الذين عاشوا في (سلانيك) في حوض البلقان نفسه، وذلك بعد تمكنهم من قيادة هذه الدولة عام 1909 على إثر الانقلاب العسكري الذي قادوه ضد السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله.

العروبة والإسلام

ومع ذلك فقد لاحظنا تراجعًا واضحًا في فكر الحصري بين كتابيه (العروبة أولاً) و(ما هي القومية؟) على سبيل المثال، وأذكر أنني أفدت من الفصل المهم الذي كتبه في كتابه الثاني تحت عنوان «القومية العربية والدين الإسلامي» وعقبت عليه أو على رأيه في عدم بقاء الارتباط قائمًا بينهما نظرًا لوجود عرب غير مسلمين، ومسلمين غير عرب،.. عقبت بأن هذا الارتباط لا يلغي العلاقة بين العروبة والإسلام، لأن التحليل الأخير لعاملي (اللغة والتاريخ) عنده سوف يلتقيان مرة أخرى في رحاب الثقافة العربية الإسلامية وحضارة الإسلام.

هذا في الوقت الذي كتبت عام 1963 مقالاً مطولاً تحت عنوان (الإسلام أولاً) كنت أردُّ فيه على كتاب الحصري «العروبة أولاً» ولو أن الأجل امتد به رحمه الله لأدرك ما انتهينا إليه اليوم من ضرورة وحتمية اللقاء بين العروبة والإسلام، أو القومية والدين في هذه البوتقة، بوتقة الثقافة العربية الإسلامية، مع فتح الأبواب والنوافذ لحركات الاجتهاد والتجديد، خصوصًا وأن حوض البلقان هو الذي أذكى في نفس الحصري العامل القومي! وإذا كان قد عجز عن الوقوف أما العامل الديني في الحركات القومية التي اجتاحت هذا الحوض، أو لم يلق لها بالاً في ظل تشديده العلماني؛ فإن ما أسفرت عنه مجازر وأهوال البوسنة والهرسك، ومشكلة كوسوفا ووضع المسلمين في السنجق ومقدونية، سوف تضاف إلى مجموعة العوامل التي تؤكد على ضرورة العودة بالعروبة والقومية إلى حضن الإسلام والثقافة العربية الإسلامية مرة أخرى.

الحلقة الثانية هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين