حملة نابليون على مصر (2)

المطبعة العربية.. وأساطير أخرى

أشرنا في المقالة السابقة إلى جملة البراهين التي يستند إليها المتغربون في زعمهم أن حملة نابليون كانت بداية عصر النهضة في مصر والعالم العربي، ووقفنا على وجه الخصوص عند زعم من زعم أن تشبع المصريين بمبادئ الثورة الفرنسية هو الذي حملهم على مقاومة نابليون نفسه، بعد أن وقفوا من خلال تلك المبادئ على المعنى الاستعماري في الحملة الفرنسية!! ونقف في هذه المقالة عند أبرز تلك المزاعم على النحو الذي ذكره الأستاذ ساطع الحصري. مع بعض الإضاءات والتعقيبات التي لابد منها بعد مرور نصف قرن على حديث الحصري رحمه الله.

ليس صحيحًا أن حملة نابليون كانت أول لقاء بين الشرق والغرب، أو أن الشرق وقف من خلالها على ما لا عهد له به عند الغربيين! لأن مصر لم تكن بحكم موقعها الجغرافي على أقل تقدير منعزلة عن العالم كما كانت اليابان على سبيل المثال. وقد تحدث الجبرتي في أكثر من مناسبة عن الأجانب الكثيرين الذين كانوا يقيمون على أرض مصر، وسماهم «الإفرنج البلديين» كما أن مصر كانت تشترك في حياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الدولة العثمانية بوصفها أحد أجزائها! وإذا جاز على أيّ جزء آخر من أجزاء هذه الدولة المترامية الأطراف أن لا يشترك مع جميع وجوه الحياة في هذه الدولة، فإن هذا لم يكن جائزًا- ولا ممكنًا- على مصر بحكم الموقع والسكان والثقافة. وغني عن البيان أن «الدولة العثمانية كانت شديدة الاحتكاك ومتواصلة اللقاء بالغرب منذ قرون» كما يقول الأستاذ الحصري، الذي يضيف أنها كانت قد أسست مدرسة للهندسة العسكرية وأخرى للشؤون البحرية قبل الحملة النابوليونية بمدة غير قصيرة، وكانت عهدت بتنظيم شؤون هاتين المؤسستين المهمتين إلى ضباط أوروبيين منهم الفرنسي والإنكليزي والسويدي. كما كانت قد ترجمت بعض المؤلفات المتعلقة بفنون الحرب على وجه الخصوص.

ويذكر ساطع الحصري أن «نابليون نفسه كان فكر في الذهاب إلى القسطنطينية للدخول في خدمة الدولة العثمانية، تلبية للطلبات التي كانت أذيعت بواسطة السفارات. وإذا كانت الظروف قد حملته على العدول عن هذه الفكرة، فإنها لم تحل دون ذهاب غيره من الضباط الفرنسيين للانخراط في سلك الجيش العثماني. ومن المعلوم أنه كان بينهم عدد من الذين كانوا رجحوا الخروج من فرنسا على البقاء فيها تحت رحمة الثورة الكبرى».

ويؤكد الأستاذ الحصري أن نابليون عندما حاصر مدينة عكا- بعد احتلال العريش وغزة ويافا- علم أن رئيس الضباط الذين كانوا يشتغلون بتحصين المدينة، ويضعون الخطط الكاملة للدفاع عنها كان ضابطًا إفرنسيًا من رفاق صفه في المدرسة الحربية!

والذي نراه في هذه النقطة أن سياقها وواقعها التاريخي يفرض علينا في هذه الأيام البحث لا عن مبدأ الصلة والاحتكاك بين الشرق والغرب، بل عن مدى حجمه وتأثيراته التي أفرزتها التجربة العثمانية الممتدة، والتي تمت قبل نابليون وبعده كذلك، حتى نقف على التأثيرات السلبية والإيجابية، ونفيد بذلك من دراسة التاريخ، بدل هذا الإصرار العجيب على قراءته بعيون الآخرين، خصوصًا أمام فشلنا بعد مئات الأعوام في تحقيق الحداثة والعاصرة أو الدخول في عصر التنوير، على الرغم من جميع «التنازلات» التي قدمتها الدولة العثمانية في باب القضاء والتشريع والقانون، وفي باب «الامتيازات» والتي توّجت أخيرًا بتبنِّي أعتى صور العلمانية- الغربية بالطبع!- على يد يهود الدونما وجماعة الاتحاد والترقي ومصطفى كمال.

لماذا لا يعيد المحتفلون بحملة نابليون حساباتهم؟ «ويحدِّثوا» تقويم تجربتهم وآرائهم، ويحاولوا في جميع ذلك أن ينحازوا إلى أمتهم وتاريهم وحضارتهم؟.

حكاية المطبعة العربية

أما الزعم بأن الحملة الفرنسية أدخلت إلى مصر أول مطبعة عربية، وأن هذه المطبعة صارت أساسًا لمطبعة بولاق الشهيرة، الأمر الذي ترتبت عليه نتائج ثقافية خطيرة! فمن المعلوم أن هذه المطبعة لم تبق في مصر، بل أعيدت إلى فرنسا مع الجيش ومعدّاته عند الجلاء، علمًا بأنها لم تنقل مع هذا الجيش إلى مصر إلا لطبع المناشير والأوامر التي توجه إلى المصريين «ولم يطبع رجال الحملة بهذه المطبعة شيئًا يفيد العلم والثقافة في البلاد» كما يقول الأستاذ الحصري. أما مطبعة بولاق فقد جُلبت في عهد محمد علي من إيطاليا على يد شاب عربي من أهل بيروت. وقد أطال ساطع الحصري الحديث عن تاريخ المطابع العربية التي تأسست في روما سنة 1514 على أقل تقدير، وذكر طرفًا من أسماء الكتب التي طبعت في هذه المطابع، منها كتاب الكافية لابن الحاجب، وكتاب القانون في الطب لابن سينا، وأشار إلى أن هذه المطابع لم تعرفها القسطنطينية فحسب، بل بعض المدن العربية كذلك في سوريا ولبنان. وقد أيَّد ذلك كله بأن التواريخ العثمانية تذكر فرمانًا صادرًا عن السلطان مراد الثالث بتاريخ 996هـ الموافق 1588م يأمر الولاة والقضاة والحكام والأمراء في جميع أنحاء السلطنة بإباحة توريد وبيع «الكتب المعتبرة المطبوعة بالعربية أو الفارسية» وذكر أن نص هذا الفرمان مطبوع في ذيل كتاب تحرير أصول إقليدس في الهندسة لنصير الدين الطوسي الذي يستفاد من غلافه أنه طبع في روما سنة 1594 ميلادية، أي قبل مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر بمدة تزيد عن قرنين كاملين!!

حجر رشيد

أما حجر الرشيد الذي عدّه بعض المصريين «أجلّ نتائج الحملة الفرنسية وأبعدها أثرًا، لأنه أنار للعالم ناحية أطبق عليها الظلام وسادها السكون، وأخرج إلى النور فقرة مفقودة كان لابد من العثور عليها حتى تستقيم سيرة الحضارة متصلة الحلقات، موصولة الفقرات، وأنار لمصر سبيلها فعرفت نفسها ومقامها بين أمم التاريخ» فلا يشفع لوضعه في هذا المقام السامي كل هذا التزويق والإنشاء والمبالغات، لأن «شامبليون» لم يتوصل إلى حل رموز الكتابة الهيروغليفية لمجرد ملاحظة هذا الحجر، بل توصل إلى ذلك بعد دراسات ومقارنات دقيقة وطويلة تناولت أول ما تناولت خصائص اللغة القبطية، مع مقارنة عدد كبير من الإشارات الهيروغليفية المنحوتة على مختلف الآثار القديمة المنقولة وغير المنقولة، علمًا بأن شامبوليون كان في الثامنة من عمره عند نزول الحملة الفرنسية إلى مصر، كما أنه لم يقم بزيارة مصر إلا في سنة 1828 أي بعد مرور أكثر من ربع قرن على تاريخ جلاء الجيش الفرنسي عنها. (ولد شامبليون سنة 1790).

ويضيف الأستاذ ساطع الحصري هنا قائلاً: «هذا ويجب أن لا يغرب عن البال أن العلماء كانوا قد تمكنوا من حل رموز الكتابة الفارسية القديمة قبل أن يتمكنوا من قراءة الكتابات الهيروغليفية، كما أنهم توصلوا إلى حل رموز الكتابات المسمارية واللغات السومرية والآشورية والبابلية بعد مدة من الزمن. وقد تمت جميع هذه الاكتشافات الهامة دون أن تذهب إلى هضبة إيران ولا إلى بلاد ما بين النهرين حملات عسكرية مثل الحملة النابليونية التي ذهبت إلى وادي النيل؟!".

الديمقراطية والتنظيمات الإدارية

ونقف أخيرًا عند العبارات التي كانت- وربما لا زالت- تُحفَّظ للطلاب في هذه النقطة أو في هذا الأثر من نتائج حملة نابليون، من نحو قولهم: إن نابليون «أشرك الأهلين في إدارة شؤون البلاد!» وقولهم :«إنه عوّد هؤلاء الأهلين على مبادئ الحياة النيابية» وذلك بدليل التنظيمات الإدارية التي قام بها الفرنسيون والدواوين التي ألّفوها من الأهلين.

لم يكن لهذه الدواوين من مهمة سوى تنفيذ أوامر الفرنسيين تحت مراقبة مندوبيهم وفقًا للتعليمات الموضوعة من قبل هؤلاء. أما أعضاء هذه الدواوين فكان يتم انتقاؤهم من قبل الحكام العسكريين. من بين «الوجوه والعلماء الذين يتمتعون بنفوذ قوي على الأهلين، مع ملاحظة قبولهم للفرنسيين» الأمر الذي يدل على أن الغرض الأصلي من هذه التشكيلات والتنظيمات كان هو «الاستفادة من نفوذ هؤلاء على الشعب لتنفيذ مآرب الفرنسيين بعد التأكد من خضوعهم وموالاتهم للإدارة الفرنسية» ولا يدري أحد ما صلة هذا بالديمقراطية وتعويد الناس على الحياة النيابية، اللهم إلا إذا كان المحتفلون اليوم بذكرى حملة نابليون لا يحتفلون إلا بهذا النوع من الديمقراطية، ولا يؤمنون بسواه من أنواع «الديمقراطيات» الأخرى، وبخاصة تلك الديمقراطيات التي لا تعرف أسلوب التعيين المباشر أو غير المباشر، أو التي لا تصل فيها نسبة النجاح إلى ما يقارب المائة في المائة أو تتجاوزها في بعض الأحيان!! أو تلك التي تحمل أو يخاف أن تحمل إلى مقاعد الحكم أعداء الشعب من الإسلاميين كما حصل في تركيا والجزائر، لأن هؤلاء السادة المتنورين المحتفلين بحملة نابليون الصليبية على أرض الكنانة يؤمنون بأن الحرية كل الحرية، وبأن الديمقراطية كل الديمقراطية للشعب.. لا لأعداء الشعب.{ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال: ??].

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين