حملة نابليون على مصر (1)

صدمة استعمارية لا بعث حضاري!

تذكرت وأنا أتابع أخبار احتفال نفرٍ من «المثقفين» بحملة نابليون على مصر بمناسبة مرور قرنين على هذه الحملة، ما كتبه الأستاذ ساطع الحصري. أو ما ردّ به وفنّده من هذه المزاعم التي يردِّدها اليوم هؤلاء المحتفلون، والتي قالها أسلافهم أو التي رُدِّدت في مصر قبل خمسين سنة، بمناسبة مرور قرن ونصف على هذه الحملة. وهي المزاعم التي تصدَّى لها ساطع الحصري وأبان بالأسانيد والوثائق العلمية والحقائق التاريخية عن سخفها وتدليس أصحابها. وكأنّ القوم لا يملّون من إعادة المعاد، وتكرار المكرر! ولكنه فيما يبدو «علم» يوحى، ودرسٌ يُلقّن.. وعاش الخلف والسلف.. ولتحيا الأصولية الفرنسية النابوليونية البونابرتية.. إلى الأبد!! أو كل نصف قرن على الأقل حتى ينقطع دابر المستعمَرين- بفتح الميم- وسائر النقلة والمترجمين الذين لا يمحّصون ما ينقلون ولا ينتقدون ما يترجمون! يقول الأستاذ الحصري: «إنني لم أصادف بين جميع الأدلة والبراهين التي قرأتها في الكتب المختلفة أي برهان معقول يؤدي الرأي القائل إن الحملة الفرنسية كانت من العوامل الفعالة في النهضة المصرية. ويظهر أن هذا الرأي استولى على الأذهان من جراء اعتماد المؤلفين المؤرخين على ما كتبه بعض الفرنسيين في هذا المضمار».

وقد أوجز رأيه في هذه الحملة بعد عودته إلى جملة من المصادر العلمية التي أرَّخت لها وذكرت وثائقها- وبخاصة ما كتبه الجبرتي وتشارلز روكس من العرب والفرنسيين- بأنها «حملة عسكرية استعمارية، مقرونة بحكم عسكري عنيف، انتهت بفشل تام، بعد أن استمرت ثلاث سنوات مضت كلها بين الحروب والثورات والاعتقالات والمظالم والاعتسافات».

وقد ناقش في سياق ردّه على من زعم بأن هذه الحملة كان لها آثار إيجابية، أو بحسب عبارته «تأثير إنشائي يبرر اعتبارها فاتحة عهد جديد، وباعثة نهضة قويمة». ناقش في هذا السياق عشرة مزاعم أو براهين مزعومة قال: إنها خلاصة البراهين التي وقف عليها من خلال مراجعته للكتب العربية التي تناولت هذا الموضوع «وكان بينها كتب مطبوعة في القاهرة، وأخرى مطبوعة في بيروت ودمشق وبغداد» ناقش مبدأ الاحتكاك بين الشرق والغرب، و«جيش العلماء» الذي كان مع نابليون، وخرافة أول مطبعة عربية أدخلتها الحملة! واكتشاف حجر رشيد الذي أدى إلى حل رموز الكتابة الهيروغلوفية. وكشف النقاب عن تاريخ مصر القديم. والمؤسسات التنظيمية التي أحدثتها الحملة، وما هيأت له من المشاريع العمرانية. إلى أن المزاعم القائلة إن هذه الحملة أظهرت ضعف الدولة العثمانية، وإنها بذلك شجعت على الحركات الاستقلالية، وأنها كسرت شوكة أمراء المماليك، وساعدت بذلك على تخلص مصر منهم بعد مدة قصيرة. وإنها هي التي فسحت أمام محمد علي مجال العمل وأنارت له سبل الإصلاح «بل هي التي كوّنته وأثارت همته الشماء»!

وقد كتب في هذا نحوًا من ثلاثين صفحة علمية موثقة بالوقائع والحقائق والأرقام. ثم أضاف إليها في بعض صفحات أخرى ما أسماه «عود إلى أسطورة تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية» حيث ناقش ما كتبه كاتب مصري باللغة الفرنسية، ونشرته مجلة الإذاعة المصرية الإفرنجية بمناسبة مرور مائة وخمسين سنة على الحملة المذكورة؛ قال الصوت المصري الفرنسي- وإن شئت قلت: الصوت فرنسي والصدى مصري- «إن بعض المؤرخين الذين رافقوا الحملة أطلعوا المصريين على التيارات الفكرية الفرنسية التي مهدت السبيل لثورة 1798 (أي الثورة الفرنسية)، وأبانوا لهم مضامين المنشور المشهود عن «حقوق الإنسان». والمصريون الذين وعوا (بهذه الصورة) ما لهم من حقوق، لم يكتفوا بالكفاح في سبيل نوال هذه الحقوق فحسب، بل إنهم زيادة على ذلك ثاروا على الفرنسيين أنفسهم عندما لاحظوا أن ما يهدف إليه هؤلاء في مصر إنما هو من النوع الاستعماري البحت» انتهت الترجمة الحرفية لا فُضَّ فوه.

لولا مبادئ الثورة الفرنسية إذن لما أدرك المصريون أن حملة نابليون إنما هي من النوع الاستعماري البحت؛ وربما ظنوا أنها ترقية وتهذيب وتمدين، وإلحاق بركب الحداثة والمعاصرة والأمم المتحضرة؛ خصوصًا أمام أعمال القتل والنهب والسلب، والعدوان على جميع الحرمات التي كان يرتكبها جند نابليون، والتي كانت تصدر بها أوامره اليومية إلى الأقاليم أسوة بما يقوم به في القاهرة.. وكما ينقلها ويعترف بها المؤرخون الفرنسيون أنفسهم. 

لقد كانت هذه الأوامر «توصي القواد بالإكثار من إعدام الأشخاص على أن تقطع رؤوسهم بعد ذلك ويطاف بها في الشارع إرهابًا للناس» وقد قال نابليون في أحد أوامره اليومية: «نحن نقطع كل ليلة ثلاثين رأسًا»!! 

إن المجازر والأهوال والفظائع التي ارتكبها نابليون تجعل من حملته على مصر واحدة من أعتى الحملات الصليبيَّة على العالم الإسلامي! ولقد قال هو نفسه مقارنًا بين حملته هذه والحملة الصليبية التي قادها لويس: «إن لويس التاسع أنفق ثمانية أشهر في الصلاة، وكان أجدى أن ينفقها في الزحف والقتال واحتلال البلاد» وكتب الجنرال «بواييه» يقول: «حين دُحر المدافعون على جميع الجوانب، واحتموا بإلههم ورسولهم فملأوا الجوامع.. وذبح الرجال والنساء الكبار والصغار وحتى الأطفال عن بكرة أبيهم، وبعد نحو أربع ساعات هدأت سورة جنودنا» ويقول أحد الجنود: «هناك قرية رفضت إمدادنا بالبضائع التي طلبناها فضُرب أهلها بحد السيف، وأحرقت بالنار، وذبح وأحرق 900 رجل وامرأة وطفل ليكونوا عبرة لشعب همجي نصف متوحش.

القتلى بالألوف.. والتدمير والفتك تكاد لا تحصيه النصوص العربية والفرنسية! وهكذا يتم تمدين هذا الشعب الهمجي نصف المتوحش».

كل هذا لا يكفي ليدرك المصريون أن حملة نابليون استعمارية.. فإنهم لم يدركوا ذلك إلا من خلال تعليم المؤرخين لهم مبادئ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان!! كفى سخفًا ونذالةً وخِسةً وطعنًا لا في وطنية الشعب المصري الذي هبّ للدفاع عن أرضه وحرماته ومقدساته.. بل في إنسانيته التي تأبى أن يدنّسها مثل هذا السفاح المبير نابليون، حتى إنَّ جنديًا صغيرًا من جنوده يصف شعب مصر العظيم بأنه شعب همجي نصف متوحش! ولا أدري لمن ادّخر هذا الجندي المتحضر!! النصف الثاني من هذا التوحش؟ يبدو أنه لا يوجد أحد أحق بهذا الوصف بعد نابليون السفاح وجنده من هذه الأبواق التي تحتفل اليوم بذكرى تدنيس نابليون أرض مصر، وهذه الأقلام التي تعد حملته عليها بداية عصر النهضة أو الحداثة.. أو العصور الحديثة العربية والإسلامية!!

ومن أوضح ما ردّ به الحصري رحمه الله على هذا الكتاب المصري باللسان الفرنسي- ولعله طه حسين غفر الله له- ملاحظته أن نابليون دخل القاهرة في 24 تموز (يوليو) والثورة التي قامت في وجهه في هذه المدينة كانت في 21 تشرين الأول (أكتوبر)، أي أن المدة التي مضت بين هذين التاريخين كانت أقل من ثلاثة أشهر!! ومعنى ذلك أن الشعب المصري اطلع خلال هذه الشهور على مبادئ الثورة الفرنسية، وعلى مضامين منشور حقوق الإنسان اطلاعًا واسعًا، وتشبَّع بتلك المبادئ تشعبًا عميقًا، وتعصّب لتلك الحقوق تعصبًا شديدًا. حتى دفعه ذلك إلى العمل والتضحية، وحمله على الثورة ضد من علّمه تلك المبادئ وعرّفه تلك الحقوق!!

ولا نعتقد نحن أن هناك طعنًا في الشعب المصري أسوأ من هذا الطعن، أو أن هناك سخفًا وعمالةً وانصياعًا في فهم التاريخ أسخف من هذا الفهم.. ولا أعتقد أن فرنسيًا واحدًا يخطر بباله أن يقوله أو يكتبه.. ولكن الأبواق والمستعمرين- بفتح الميم- والمسكونين بالغرب وفرنسا ونابليون، والذين يزدرون أمتهم ويطعنون في تاريخهم.. من أبناء العرب والمسلمين هم الذين يفعلون ذلك، أو هم المختصون بفعله من بين سائر البلاد والعباد.

ندع الآن حديث الثلاثة أشهر للحديث عن المائتي عام التي مرت على هذه الحملة.

بعد نزول القرآن الكريم بمائتي عام ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية في بيت الحكمة وفي أروقة بغداد في عصر الخليفة المأمون، وتم للمسلين وضع النظام العشري وعلم المثلثات وقياس محيط الكرة الأرضية. وبعد مرور مائتي عام على مقالة «ديكارت» في المنهج والتي نادى فيها بإنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض، وبشّر فيها بعصر يسيطر فيه الإنسان على الطبيعة» آتت هذه المقالة ثمراتها فولد الحصان البخاري- اكتشاف قوة البخار- في قِدر «بابان» و«واط»! ثم ارتقت الحضارة الأوربية صُعدًا في ميدان الكشف والاختراع، وما زالت ترتقي حتى الآن.

واليوم بعد مضي مائتي عام على التمدين والتحضير والحداثة التي بشّرت بها حملة نابليون على مصر.. أين هي الحداثة والتقدم والتنوير وحقوق الإنسان؟ وما مصير هذه الشعارات جميعًا على ألسنة السادة المحتفلين بذكرى نابليون وفي مواقفهم وواقع ممارساتهم؟

لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر صدمة استعمارية أكدت انعدام الثقة بالغرب وبشعاراته الزائفة. وعوّقت حركة النهضة التي كانت قد بدأت في مصر على وجه الخصوص عن أن تبلغ غايتها أو تسير في طريقها. ولم تكن هذه الحملة أول لقاء بين الشرق والغرب كما زعم الرواة، لأن هذا كان حاصلاً قبل ذلك بعشرات السنين، من خلال علاقة مصر نفسها والدولة العثمانية بالغرب وما صاحب هذا اللقاء أو الاحتكاك من مشاريع الحداثة والتقدم على الصعيد العلمي والإداري والعسكري كما سنشرح ذلك في المقالة القادمة إن شاء الله. ويبقى السؤال المطروح:

ولكن أين هو التنوير، ونحن لا نرى متنورين بل مستغربين؟! ولا نرى مبدعين ولا مخترعين ولكنْ نقلة ومترجمين!

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين