سلسلة إتقان البرهان (عرض ونقد) (4)أسـباب النـزول

إنَّ مبحث أسباب النزول من المباحث الخطيرة، التي يستغلها أعداء الإسلام لِبَثِّ شبهاتهم، وقد توسع الدكتور فضل في الحديث عن هذا الموضوع، وأفاض فيه، ولكن هناك ملاحظات عامة يجدها كل من يقرأ هذا المبحث وهي:

1-تكرار الدكتور فضل لبعض الفقرات.

2-التوسع في إيراد الأمثلة.

3-التوسع والاستطراد في هذا الموضوع بشكل عام، حيث بلغ حجم هذا المبحث عند الدكتور فضل ما يقرب من ثمانين صفحة.

أولاً: المصنفات في أسباب النزول (1): 

تحدث الدكتور فضل عن المصنفات في أسباب النزول قديمها وحديثها، بدءاً من شيخ البخاري (علي بن المديني) وانتهاءاً بالكتب والرسائل العلمية التي ألفت في هذا الموضوع.

ويرى أن من أفضل ما ألف حديثاً رسالة الدكتور خالد المزيني، المحرر في أسباب النزول من خلال الكتب التسعة، ومع ذلك كان له عليها بعض المآخذ. 

ولعل الدكتور فضل لم يطلع على رسالة الدكتور عماد الدين الرشيد، (أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص)؛ لذلك لم يذكرها ولو أنه اطلع عليها؛ لما جزم بانعدام الدراسات النقدية لروايات أسباب النزول، والله أعلم.

ثانياً: تعريف سبب النزول: 

تابع الدكتور فضل الزرقاني في تعريفه لأسباب النزول، -ولم يورد تعريفاً جديداً- فقال: سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات أيام وقوعه، متضمنة له، أو مبينة لحكمه (2).

ثم ذكر الدكتور فضل شرح التعريف ومحترزاته، مع التمثيل والتوضيح لكل ما يذكر. 

ثالثاً: مصطلح سبب النزول (3):

يُنَبِّه الدكتور فضل على أن مصطلح سبب النزول لم يكن معروفاً في عهد الصحابة والتابعين ?، ويستدل على ذلك بأننا لم نجد في رواية من الروايات الواردة عن الصحابة، عبارة قيل فيها: سبب نزول الآية كذا.

والذي يبدو لي بعد البحث، أن هذا المصطلح بلفظه لم يرد عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن ورد بمعناه: عندما قال ابن مسعود رضي الله عنه : والله ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم أحداً.........لأتيته (4).

فقوله: (فيم نزلت)؛ يعني سبب نزولها، وقوله: (أين نزلت)؛ يعني مكان نزولها.

رابعاً: فوائد معرفة أسباب النزول (5): 

ذكر الدكتور فضل أن من فوائد أسباب النزول الاستعانة على فهم الآية، وإزالة ما يبدو من إشكالات في الظاهر عند بعض الناس، ومثّل لذلك بأمثلة، منها: قوله تعالى: { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: ???]. 

جاء في صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى هذه الآية، وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنُعذبنَّ أجمعون، فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية، إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كلماتهم. ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: ???] إلى قوله: { يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (6). 

ثم ذكر الدكتور فضل تعليقاً على هذا الحديث جملة من المسائل والاستنباطات:

1-إن المتأمل في جواب ابن عباس يدرك اعتماده على السياق، عندما ربط الآية بما قبلها، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 

2-فهم كثير من الناس من ظاهر قول ابن عباس أن هذه الآية خاصة باليهود، وهذا الفهم -من وجهة نظر الدكتور فضل- يفتح أبواباً خطيرة. 

3- فسر الزركشي والسيوطي كلام ابن عباس بأنه عام أريد به الخصوص، ومثلوا له بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك.

ثم علق الدكتور فضل على ذلك فقال: "وقول السيوطي ومن قبله الزركشي لا يحل الإشكال في هذه القضية، وليس فيه إجابة مقنعة، وقوله: إنه عام أريد به الخصوص، وتمثيله بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك غير مسلم".

ثم بعد ذلك بيَّنَ الدكتور فضل الوجه الصحيح في فهم الآية، وهو أنه لا يجوز أن نقول: إنه عام أريد به الخصوص، وإنما هو عام أريد به العموم، فهي وإن نزلت في اليهود، فإنها تعم كل من على شاكلتهم؛ فهي عامة في مفهومها ومعناها.

ثم ذكر الدكتور فضل كلام شيخه عبد الوهاب غزلان، فقال: "أقول: كلام ابن عباس وإن كان ظاهراً في تخصيص الآية بمن نزلت فيهم من اليهود، حيث قال لرسول مروان: مالكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهوداً فسألهم عن شيء....إلخ، إلا أنه يمكن تأويله بما يخرجه عن هذا الظاهر بأن يكون مراده أنها نزلت في هؤلاء اليهود لارتكابهم هذا الكذب الشنيع وفرحهم به، فلا تتناول من يفرح بما أتى من خير كما فهمتم، وإنما يتناول من يفرح بالشر كما وقع من اليهود، وبذلك تكون عامة في كل من وقع في مثل ما وقع فيه اليهود من فعل الشر، وإيهام فعل الخير والفرح بذلك" (7).

والمتأمل لكلام الشيخ عبد الوهاب غزلان عندما ذكر أن الآية لا تتناول من يفرح بما أتى من خير يفهم منها، وإنما تتناول من يفرح بالشر كما وقع من اليهود. يجد أن الشيخ يخصص الآية بمن فرح بالشرِّ، ولا يجعلها من العام الذي أريد به العموم، وبذلك يكون الخلاف بين ما قاله الشيخ غزلان، وما نقله السيوطي لفظي؛ لأنَّ الإمام السيوطي رحمه الله: قال في الإتقان - بعد أن ذكر تفسير الظلم بالشرك-: "وقد ورد عن ابن عباس ما يدل على اعتبار العموم، فإنَّه قال به في آية السرقة، مع أنها نزلت في امرأة سرقت. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، أنبأنا محمد بن أبي حماد، حدثنا أبو ثميلة بن عبد المؤمن عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ??] خاص أم عام؟ قال: بل عام" (8). 

ثم ذكر السيوطي كلاماً لابن تيمية مفاده أنَّ هذه النصوص وإن وردت على سبب خاص، فالمراد بها العموم. قال السيوطي: "وقال ابن تيمية: قد يجيء كثيراً من هذا الباب قولهم هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصاً، كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس، وإن آية الكلالة نزلت في امرأة جابر بن عبد الله، وإن قوله: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: ??] نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك، لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه؟ فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: أنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً ونهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كان خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته، اهـ" (9).

ثم يتابع الدكتور فضل الحديث عن فوائد أسباب النزول، -كـ هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب، وامتناع خروج صورة السبب من النص العام- ولن أقف عندها؛ خشية الإطالة. 

خامساً: هل يتعدد السبب ويتعدد النازل (10): 

ذكر الدكتور فضل لهذه المسألة صورتين: 

الصورة الأولى: أن يتعدد السبب والنازل واحد، وهذه الصورة لا إشكال فيها عند الدكتور فضل؛ لأن من الطبيعي أن يكون هناك أحداث متشابهة، ولا مانع أن تكون وقعت في وقت واحد، أو أوقات متقاربة، ومن أمثلة هذه المسألة: ما جاء في قوله تعالى: { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: ???]. أخرج البخاري في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت (11).

وجاء في صحيح البخاري أيضاً أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبنّ أجمعون...، ثم قرأ ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى قوله: { يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: ???-188] (12). 

الصورة الثانية: أن يتعدد النازل والسبب واحد، ويرى الدكتور فضل أنَّ مثل هذه الصورة لا وجود لها؛ لأسباب منها:

1-أنها تتعارض مع طبيعة القرآن، وواقع الأحداث. 

2-أن القرآن الكريم يمتاز بالإيجاز والإحكام، فإذا وقع حدث، ونزلت فيه آية، فإن هذه الآية كافية تامة، وليس هناك حاجة إلى نزول آيات ثانية.

3-أنه ينبغي أن نجل القرآن الكريم عن مثل هذا الأمر؛ لأنَّ أحدنا إذا سُئل عن أمر، وأجاب عنه، أيرضى أن يعيد الإجابة بعد شهرين، أو سنة، والإجابة الأولى كافية.

ويذكر الدكتور فضل أن معظم ما ذُكر من الأمثلة على هذه المسألة غير مقنع، من ذلك ما ورد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ (13) فالآيات التي نزلت إجابة عن هذا التساؤل، إحداها في سورة الأحزاب وهي قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: ??]والثانية في آل عمران {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: ???] وقد ورد في بعض الروايات أن أم سلمة قالت: قلت يا رسول لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء (14). ويجيب الدكتور فضل عن هذا التساؤل: بأن هناك آيات ورد فيها ذكر النساء قبل الهجرة من ذلك قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: ??] وهذه الآية في سورة النحل وغافر، وهما مكيتان. 

والدكتور فضل هنا متسق مع نفسه؛ لأنه يرى أنه لا يوجد تعدد للنزول، كما مر سابقاً، فرأيه هناك متفق مع رأيه هنا (15). 

سادساً: طريقة معرفة سبب النزول (16):

لا شك أن معرفة سبب النزول طريقها النقل وحده، ولكن هناك روايات متعددة لأسباب النزول، فكيف يتم التعامل معها؟ ذكر الدكتور فضل أن علماء علوم القرآن تحدثوا عن هذه القضية، فبينوا أنَّ قول الصحابي: حدث كذا، أو حصل كذا، أو كان كذا فنزلت الآية، أو فيَّ نزلت، هو من قبيل سبب النزول الصريح.

أما إذا قال الصحابي: مراد الله كذا، أو معنى الآية كذا؛ فهذه العبارات، وما يشبهها لا تدل يقيناً على سبب النزول.

ولكن العبارة التي تحتمل النزول وغيره، قول الصحابي: نزلت الآية في كذا، فقد تكون الآية سبب نزول، وقد يكون تفسيراً منه للآية، ومن هنا حصل اللبس.

ثم بيَّن الدكتور فضل أنَّ قول الصحابي: حدث كذا فنزل كذا، هو من قبيل المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا فقد اختلفوا فيه: فالبخاري يَعُدُه من قبيل المرفوع، وغيره لا يَعُدُه. وهذه المسألة كررها الدكتور فضل مرتين في صفحة واحدة، ونقل قول الإمام البخاري، ومخالفة العلماء له مرتين، ولكن في المرة الأولى ذكر الدكتور فضل مثالاً: فقال: "أما إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، كقولهم: إن آية الظهار....فقد اختلفوا فيه، فالبخاري.." (17). وفي المرة الثانية، لم يذكر مثالاً، قال الدكتور فضل: "وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند....فالبخاري يدخله في المسند، وغيره..." (18). 

ثم ذكر الدكتور فضل بعض الروايات التي ذكر العلماء أنها من أسباب النزول، وهي من قبيل التفسير. ولكن بعض هذه الروايات فيها تصريح بسبب النزول، فلماذا ذكر الدكتور فضل أنها من قبيل التفسير؟ ثم إن كان مراده أنها وردت بلفظ آخر يوحي بأنها من قبيل التفسير، فلماذا لم يذكر ذلك اللفظ؛ حتى تتضح الصورة؟، ومن هذه الأمثلة التي يُناقش فيها الدكتور فضل: 

1-قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } [آل عمران: ??] فالصحابي يقول: (فيّ والله أنزلت) ، وسبب النزول صحيح أخرجه البخاري، فلماذا عدها الدكتور فضل من قبيل التفسير؟. 

2- قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: ???]السبب الأول: أنها نزلت في أحبار اليهود، وقد حكم عليه بعض العلماء بالصحة (19). والسبب الثاني: أنها نزلت في صلاة العتمة، وهو ضعيف(20) كما ذكر الدكتور فضل، ولكن الذي فعله الدكتور فضل، أنه أجمل السببين في التخريج، وحكم عليهما بالضعف، مع أنهما مختلفان (21).

3- قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } [النساء: ???]، ذكر الدكتور فضل رواية البخاري عن عائشة أن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} (22). وهذه الرواية صريحة بالسببية، فلماذا جعلها من قبيل التفسير؟. 

سـابعاً: روايـات أسباب النزول: 

ذكر الدكتور فضل أنَّ مسألة التعارض والترجيح في أسباب النزول، هي لُبُّ الموضوع، وهي من الخطورة بمكان، وذكر أنَّ الإمام السيوطي قد بيَّن قاعدة تعدد روايات أسباب النزول، وأنها ترجع إلى ثلاث حالات (23):

1-إذا كان إسناد أحدهما أصح من الآخر، قدّم الأصح.

2-فإن استويا في الصحة، وكان في أحدهما تصريحاً بذكر السبب، قُدم الأول لما فيه من التصريح.

3-فإن استويا في الصحة والتقديم في السبب، ولم يمكن الترجيح بينهما، فإننا نلجأ في هذه الحالة إلى القول بتعدد النزول، وتكرره. هذا خلاصة ما ذكره السيوطي. 

ولكن هناك حالة أفردها السيوطي، لم يذكرها الدكتور فضل، وهي: أنه إذا استويا في الصحة والتقديم بالسبب وأمكن الترجيح بينهما بوجه من وجوه الترجيح، كأن يكون الراوي حاضر القصة، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فيقدم الراجح (24).

ثم ذكر الدكتور فضل تفصيل هذه الحالات مع الأمثلة (25):

الحالة الأولى: كون الآية ذكر لها سببان، أحدهما أصح من الآخر، فيقدم الصحيح، وذكر الدكتور فضل أن السيوطي مثل له بسورة الضحى (26).

الحالة الثانية: أن تكون الروايتان صحيحتان، لكن إحداهما فيها تصريح بسبب النزول، والأخرى ليست كذلك، فتقدم الرواية الصريحة، ومثَّلَ الدكتور فضل لهذه المسألة بقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: ???]، أخرج مسلم عن جابر، قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (27). وجاء عن ابن عمر أنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن (28). فبيَّن الدكتور فضل أنهم عدُّوا قول جابر سبب نزول، ولم يعُدوا قول ابن عمر كذلك؛ لأنَّ جابراً صرح بالنزول، عندما قال: (كانت اليهود فنزلت).

ثم ذكر الدكتور فضل أنَّ الإمام السيوطي مثَّل لهذه الحالة بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: ??] (29). وبيَّن الدكتور فضل بأن الإمام السيوطي رجح رواية البخاري على رواية الترمذي؛ لأنَّها أصح، ولأنَّ ابن مسعود كان حاضراً للقصة، ثم ذكر أنه سيناقش هذه المسألة فيما بعد أيضاً. 

ويُلاحظ أنَّ الدكتور فضل لم يكتفي بمناقشة هذه المسألة عند مبحث نزول القرآن، ثم أشار إليها هنا، وأحال إلى ما سيأتي. وكأنه يؤكد لنا أنه على صواب في هذه المسألة؛ لأنَّ بعض الناس ربما يستعظم تقديم رواية الترمذي على رواية البخاري، ومستند الدكتور فضل في هذا أمور عدة منها:

1-أن رواية ابن مسعود جاءت في موضع آخر (فظننت أنه يوحى إليه).

2-أن رواية ابن مسعود عند البخاري، ليس فيها تصريح بسبب النزول، إذ جاء فيها (ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ} [الإسراء: ??])، ولم يذكر فيها فأنزل الله. 

3-أن الآية مكية، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، تريث ظناً منه أنه سيوحى إليه شيء، لكن ذلك لم يحصل، فتلا هذه الآية (30). 

الحالة الثالثة: أن تكون الروايتان متساويتين من حيث الصحة، والتصريح بسبب النزول، ولم يمكن الجمع والترجيح، فهنا يلجأ إلى القول بتعدد النزول، كما يقول السيوطي في الإتقان (31). ومثل له بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: ???]، فقد جاء في سبب نزولها ثلاث روايات: 

الأولى: عند البخاري: أنها نزلت في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب (32).

والثانية: أخرجها الترمذي وحسنها أنها نزلت في رجل استغفر لأبويه وهما مشركان (33).

والثالثة: عند الحاكم: أنها في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأمه (34).

ثم يعلق الدكتور فضل على هذه المسألة فيقول: "ورحم الله السيوطي، فكلامه لا بد من مُناقشته، فعند حديثه عن آية الروح رجح رواية البخاري على رواية الترمذي، لكنه هنا سوى بين الروايات الثلاث، مع أنا عرفنا من قبل أن الرواية الأخيرة مردودة لا تصح، فكيف سوى بينها وبين غيرها ليبني على هذه التسمية (35) أمراً خطيراً وهو القول بتعدد النزول" (36). 

الحلقة السابقة هـــنا

الهوامش:

1- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/301).

2- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/310)؛ الزرقاني، (محمد عبد العظيم)، مناهل العرفان، (1/108). 

3- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/309).

4- أخرجه البخاري ومسلم

5- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/315وما بعدها).

6- أخرجه البخاري 

7- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/321).

8- السيوطي، (جلال الدين)، الإتقان، (1/87). 

9- السيوطي، (جلال الدين)، الإتقان، (1/87)؛ ابن تيمية، (أحمد بن عبد الحليم)، مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عدنان زرزور، دار القرآن الكريم-الكويت، ط1، 1391هـ/1971م، (ص44وما بعدها).

10- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/328وما بعدها).

11- أخرجه البخاري

12- أخرجه البخاري

13- أخرجه أحمد

14- أخرجه الترمذي

15- ويرى الأستاذ الدكتور محمد الشربجي أن الدكتور فضل محق في هذه المسألة، وقضية تعدد النزول مع اتحاد السبب، إنما هي من فهم العلماء. المصدر، سماعاً من فضيلته، جامعة دمشق، محاضرات الدراسات العليا، بتاريخ: 29/3/2010م. 

16- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/335). 

17- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/334، 335). 

18- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/333وما بعدها).

19- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، (1389). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات، (6/359). 

20- أخرجه أحمد في مسنده, مسند المكثرين من الصحابة, مسند عبد الله بن مسعود، رقم (3760)، (1/396). ولفظ الحديث بتمامه: أن ابن مسعود قال: أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء, ثم خرج إلى المسجد, فإذا الناس ينتظرون الصلاة, قال: أمَا إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم. قال: وأنزل هؤلاء الآيات [ليسوا سواء من أهل الكتاب] حتى بلغ [وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين]. وعلّق الشيخ شعيب الأرناؤوط على إسناد الحديث فقال: صحيح لغيره, وهذا إسناد حسن. وبالتالي فحكم الدكتور فضل على الحديث بالضعف غير مسلّم، فليُراجع، وليُدرس. 

21- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، حاشية الكتاب، رقم (4)، (1/337). 

22- أخرجه البخاري 

23- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/339).

24- السيوطي، (جلال الدين)، الإتقان، (1/94)

25- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/340وما بعدها) 

26- السيوطي، (جلال الدين)، الإتقان، (1/92).

27- أخرجه مسلم

28- أخرجه النسائي

29- السيوطي، (جلال الدين)، الإتقان، (1/94).

30- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/140).

31- السيوطي، الإتقان، (1/95).

32- أخرجه البخاري

33- أخرجه الترمذي

34- أخرجه الحاكم في مستدركه, كتاب: التفسير, باب: تفسير التوبة، رقم (3292)، وقال: صحيح على شرطهما, وتعقبه الذهبي بأن فيه أيوب بن هانئ؛ وهو ضعيف.

35- هكذا وردت (التسمية)، والصواب التسوية؛ لأن الحديث عن التسوية بين الروايات، وليس الأسماء.

36- عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/342-343). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين