سلسلة إتقان البرهان (عرض ونقد) (3) جمع القرآن الكريم

تـمهيد: 

مرَّ جمع القرآن الكريم بمراحل متعددة، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لِكِتَابِه-في كل مرحلة- الوسائل الكفيلة بحفظه، وتعهد سبحانه هو بذلك فقال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: ?]. 

وقد تحدث الدكتور فضل في هذا الفصل عن معنى الجمع، وكيفيته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده رضي الله عنهم ، ثم أتبع ذلك بالحديث عن الشبهات التي تتصل بجمع القرآن، وكان له في هذا الفصل، بعض الآراء الخاصة، سيأتي الحديث عنها ومناقشتها إن شاء الله.

أولاً: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم (1): 

كان الجمع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقتين هما: الحفظ في الصدور، والكتابة في السطور، بحسب ما يتيسر من وسائل الكتابة في ذلك.

وقد تحدث الدكتور فضل عن العوامل التي ساعدت على حفظ القرآن في الصدور في ذلك العصر، ولن أقف عندها، وإنما الذي يستدعي الوقوف هو ما ذكره عن الجمع بمعنى الكتابة، فيذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وجه الصحابة لكتابة القرآن بقوله: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)(2). ثم يعلل النهي عن الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم بأنها من أجل أن يخص الصحابة رضي الله عنهم القرآن بمزيد العناية، وأن لا يشتغلوا بأي شيء عنه.

وأما التعليل الذي اشتهر بأن ذلك خشية اختلاط القرآن بغيره كالحديث؛ فيذكر الدكتور فضل بأنه غير مسلم؛ لأنَّ أسلوب القرآن يختلف عن أسلوب البشر، والصحابة كانوا ممن يستطيعون التمييز بين كلام الله وكلام غيره؛ لأنَّهم أرباب الفصاحة والبلاغة.

وهكذا نجد بأن الدكتور فضل لا يقبل كل ما ذكر على أنه مسلم، بل في كل مبحث يُتحِفُنا بالجديد من آرائه.

والذي أراه: أنه لا مانع من إرادة السببين؛ لأنَّ الصحابة لم يكونوا في مستوى واحد من العلم.

ثانياً: جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3):

قام سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجمع القرآن الكريم بمشورة عمر رضي الله عنه ، وبتنفيذ زيد رضي الله عنه ، وإقرار من الصحابة رضي الله عنهم ، وقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لزيد: (إنك رجل شاب عاقل لا نتَّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) (4).

وقد جاء الدكتور فضل بتحقيقات جديدة أقف عندها واحدةً واحدة:

أولاً: خزيمة بن ثابت، وأبو خزيمة هما رجلان

يذكر الدكتور فضل بأنهما حادثتين مختلفتين، من صحابيين مختلفين، فالذي جاء بأواخر سورة التوبة هو أبو خزيمةرضي الله عنه (الحارث بن خزمة)، أما الذي جاء بآية الأحزاب { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } [الأحزاب: ??] فهو خزيمة بن ثابت رضي الله عنه الذي تعدل شهادته شهادة رجلين. ثم يضيف الدكتور فضل بأن كلا الحادثتين كانتا في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، بدليل ما أخرجه البخاري في إحدى الروايات أن فقد آية الأحزاب كانت في عهد أبي بكر رضي الله عنه (5). 

ثانياً: أنَّ زيداً وابن مسعود لم يشهدا العرضة الأخيرة على النبي صلى الله عليه وسلم :

يقول الدكتور فضل: "ما روي أن زيداً حضر الأخيرة ليس عليه دليل يعتمد" (6).

ويقول أيضاً: "القول بأن عبد الله بن مسعود شهد العرضة الأخيرة قول لا يصح البتة؛ لأنَّ العرضة الأخيرة كانت لقاءً خاصاً بين أمين الأرض وأمين السماء" (7).

ولم يذكر لنا الدكتور فضل الأدلة في كتابه هذا، وإنما أحالنا إلى كتاب آخر له، وهو (القراءات القرآنية).

ثالثاً: الصحف التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم ليس فيها منسوخ التلاوة: 

ينبه الدكتور فضل على أن الصحف التي كانت مكتوبة في عهده صلى الله عليه وسلم ، والتي اعتمد عليها الصديق رضي الله عنه في جمع المصحف، ليس فيها منسوخ التلاوة كما توهم عبارات بعض الذين كتبوا في علوم القرآن(8)؛ لأن أمر نسخ التلاوة -من وجهة نظر الدكتور فضل- من الأمور التي تحتاج إلى نظر وبحث، بالإضافة إلى أنه لا يعقل أن يكون هناك شيء منسوخ قد كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينبه عليه صلى الله عليه وسلم (9).

أما بالنسبة لقضية منسوخ التلاوة وموقف الدكتور فضل منها، فسوف يأتي الحديث عنها، ومناقشتها في مبحث النسخ إن شاء الله تعالى. 

وأما ما ذكره الدكتور فضل بأنه لا يعقل أن يكون هناك شيء منسوخ ولم ينبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو مجرد احتمال عقلي، ولا يدل على أن الصحابة جردوا مصاحفهم من منسوخ التلاوة بعد أن نبههم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم حفظوا هذه المواضع، وجردوا المصحف الذي جمعه زيد رضي الله عنه منها، والله تعالى أعلم.

ثالثاً: جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه (10): 

شعر عثمان رضي الله عنه بخطورة الاختلاف الذي حصل بين المسلمين؛ بسبب انتشار قراءات الصحابة في الأمصار الإسلامية، فقام بتوحيد المسلمين على مصحف واحد، قطعاً للفتنة، وحسماً للنزاع.

وذكر الدكتور فضل أنَّ عثمان رضي الله عنه كان المشرف العام على عملية الجمع، وأن الصحابة كانوا إذا اختلفوا في كتابة كلمة من القرآن رجعوا إليه، لكي يبين لهم الوجه الصحيح فيها.

ومن عادة الدكتور فضل أنه إذا ذكر الروايات يتعقبها بالتصحيح والتضعيف، ولكن الدكتور فضل في هذا الموضع لم يعلق على الرواية التي أوردها ابن حجر في الفتح، وهي أن الصحابة حينما اختلفوا في كتابة كلمة (التابوت) هل يكتبوها بالتاء أم بالهاء؟ رفعوا الخلاف إلى عثمان رضي الله عنه ، فقال: اكتبوه (التابوت) فإنه نزل بلسان قريش.

وهذه الرواية تعقبها فضيلة الدكتور نور الدين عتر وحكم عليها بالضعف، فقال: "فهذه الرواية في إسنادها كلام، رواها الزهري مرسلة، وتفرد بوصلها من هو ضعيف (11). ثم عزا الدكتور نور الدين هذا الكلام إلى الحافظ ابن حجر في الفتح (12).

الهوامش:

1- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/261وما بعدها).

2- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الزهد والرقائق, باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم (3004). 

3- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (ص266). 

4- انظر: البخاري، الجامع الصحيح, كتاب: فضائل القرآن, باب: جمع القرآن رقم (4702)، (4/1908).

5- انظر: البخاري، الجامع الصحيح, كتاب: فضائل القرآن, باب: جمع القرآن رقم (4702)، (4/1908). 

6- عباس، (فضل حسن)، هامش إتقان البرهان، (ص269).

7- عباس، (فضل حسن)، هامش إتقان البرهان، (ص289). 

8- قال الزرقاني في مناهل العرفان: "وصفوة المقال أن القرآن كان مكتوباً كلّه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت كتابته ملحوظاً فيها أن تشتمل على الأحرف السبعة التي نزل عليها؛ غير أن بعض الصحابة كان قد كتب منسوخ التلاوة، وبعض ما هو ثابت بخبر الواحد، وربما كتبه غير مرتب. ولم يكن القرآن في ذلك العهد مجموعاً في صحف ولا مصاحف". (1/248).

9- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/276). 

10- انظر: عباس، (فضل حسن)، إتقان البرهان، (1/279). 

11- عتر، (نور الدين)، علوم القرآن الكريم، حاشية الكتاب، ص(56). 

12- انظر: ابن حجر، فتح الباري، (9/20).

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين